القاهرة 06 اغسطس 2024 الساعة 11:13 ص
بقلم : د. هبة الهواري
ولدت الفنانة زينب عبد الحميد في يناير عام 1919 م، وحصلت على دبلوم الفنون الجميلة من المعهد العالى لمعلمات الفنون قسم فنون جميلة 1945، كما حصلت على درجة أستاذية الرسم من المدرسة العليا للفنون الجميلة (سان فرناندو) بمدريد 1952. وعملت بالتدريس فى معهد معلمات الفنون الجميلة الذى تحول الى كلية التربية الفنية 1952، ثم عملت أستاذاً غير متفرغ وفي عام 1969عينت فى درجة استاذ بقسم التصوير بكلية التربية الفنية ـجامعة حلوان ، كما ساهمت فى تأسيس جماعة الفن الحديث التى شاركت فى معارضها بالقاهرة والإسكندرية لمدة عشرة اعوام منذ 1947 .
ومن هنا يمكننا أن ننطلق في قراءة أعمال الفنانة زينب عبد الحميد ونتذوق الجماليات التشكيلية في لوحاتها ، حيث يبدو المكان هو البطل في أغلب لوحاتها وعلى اختلاف مراحلها الإبداعية، حيث نراها و قد انشغلت بالمدن وشوارعها المزدحمة الصاخبة، والموانئ المحملة بالشجن، وأماكن تجمع العمال في ورش صناعة السفن، وكذلك البائعين في الأسواق والمقاهي، ساعدها اختيارها لمنظور عين الطائر في الكثير من اللوحات لتسمو فوق التفاصيل وتنفذ بذاتها المبدعة الفذة إلى آفاق أكثر رحابة.
فنراها في لوحة موقف عربات الحنطور ، ألوان زيتية على قماش ،92 سم × 73سم ، أنتجتها في عام 1965.حيث تلتقط ذاكرتها لمحة من المكان المشحون بالعمل وتصنع تصميمها المتلاشي عند نقطة الزوال وهو ينبض بضربات الفرشاة الإيقاعية، حين ذهبت نحو التكرار والترديد بين جسم عربة الحنطور وعجلاتها الخشبية وتنوع أحجامها مع تلاشي وصغر الحجوم حتى نهاية الشارع الذي منحته لوناً زيتياً من درجات الأزرق الذي يصبغ المكان بإضاءة هادئة كضوء القمر في نهاية يوم عمل في الموقف حيث العربات مفككة والعجلات تتم صيانتها، وكعادتها في الاهتمام بالتفاصيل المعمارية للمكان حيث حرصت على توزيع البواكي والعقود نصف الدائرية، وترديدها مع التدرج حتى نقطة زوال الرؤية في المنظور، لم يكن سائق الحنطور هو البطل هنا و لا كان الحصان، حيث نراها قد منحتهما أحجاماً صغيرة تتدرج في الصغر، البطولة هنا للعجلات التي تنتشر في لحظة ثرية بالمعنى بعد أن يهدأ الصخب، ويعود كلٌ إلى عالمه الصغير أملاً في يوم جديد من العمل الدائب.
لم نر في شخوص الفنانة زينب عبد الحميد فرداً بارزاً أو ذا أهمية محددة بل هم الناس هم المصريون المنتشرون في شوارع المدن وحاراتها و مقاهيها وأسواقها، كما نرى في لوحة بائع الخضار التي أنتجتها في عام 1966 وقد استخدمت فيها الألوان المائية 73سم × 54 سم، حيث تلتقط تلك اللحظات اليومية في صخب السوق الشعبي حيث تتناثر العربات الخشبية و المظلات البسيطة والخضروات والفاكهة والنساء ذوات الملاءة اللف السوداء. وكما استخدمت عجلات الحنطور في صناعة الإيقاع المتنوع استخدمت أسطح العربات الخشبية التي تدفع باليد ذات الشكل المستطيل التي تتردد في مساحة اللوحة بشكل فسيفسائي لم يترك مساحات تذكر لتتضح الأرضية أو خط الأفق و نهاية المنظر . هي تصب تركيزها كله على لحظة السوق العامرة بالحياة و العمل.
هكذا يتعلق الخيال الاختراقي بما وراء السطح الظاهر، بالظل الموجود خلف النور بالباطن الموجود وراء الظاهر، بالمعاني، بالأماكن العميقة التي يسعى إليها هذا الخيال و يستخلصها بالرؤية الواضحة للأشياء الخفية و ليس مجرد الربط الآلي أو حتى الجديد بين التفاصيل ، فالأمر هنا يتعلق أيضاً بالأصالة، بالجدة، بالاكتشاف، بالطزاجة، بكشف الغطاء و إزاحته عن الغامض أو المتخفي و المخبوء و البعيد.
فنجد الفنانة زينب عبد الحميد توزع درجات متساوية من الإضاءة على جميع عناصر لوحتها. في لوحتها المسماة السوق ، و هي ألوان مائية على كرتون ،84سم ×63 سم و التي أنتجتها عام 1987 م تمارس الفنانة نوعاً من الخيال التأملي هو الخيال التجريدي، وهو الخيال المتعلق بالأفكار بما يبقى بعد غياب الصورة والشكل المحدد الموضوع الذي حرم أو أبعد عن شكله الجسدي أو المادي، والأثر الذي يبقى و يفي بالغرض الخاص المرغوب، الأثر الذي يجري تشكيله فيكون صيغة خاصة لمجموعة من الخصائص المتجسدة معاً في كيان مجرد له اتساقه وواقعيته أيضا،ً كما يقول أستاذنا الدكتور شاكر عبد الحميد.
و في لوحتها شارع في خان الخليلي، و قد أبدعتها في عام 1988 بالألوان الزيتية على القماش 92 سم × 73 سم، وكذلك و في لوحتها صناعة المراكب ببورسعيد، وقد أبدعتها باستخدام الألوان المائية ، 60سم × 83 سم ،1996 حيث نراها لا تسعى نحو الوصول إلى أشكال مماثلة للدكاكين والبازارات مثلاً، لكنه يصل إلى أشكال قد حرمت تماماً من وجودها المادي ويتم تأملها على أنها عوالم أخرى مستقلة منحتها الفنانة هذا المسمى، إن ما يتم الوصول إليه هنا نوع من التماثل الخارجي المفعم بالقوة لكن مع الخفض الخاص للصورة الأصلية للعناصر التي تقوم زينب عبد الحميد برسمها لمصلحة المجرد أو الشكل الخالص المليء بالدلالات، وهو يرتبط بشكلٍ خاص كما قلنا بالأفكار، والنواتج الجديدة، بأصالة و مرونة بازغة، والأصالة تعني القيام باستجابات غير معتادة أو غير مالوفة، أو القيام بتداعيات بعيدة، إنها ترتبط بفكرة التحرر من الصيغ المعروفة، أو من النمط، وهي قدرة أساسية في الإبداع وفي التذوق والتفضيل أيضاً، إنها القدرة التي تجعلنا نبحث عن الجديد والمدهش وغير المتكرر والمميز في أحد الأعمال الفنية.
ومثلما ينفر المبدع الأصيل من التكرار والنمطية والحلول التقليدية أو القيام بإنتاج أعمال فنية مألوفة سبق له هو نفسه أن أنتجها، أو قام غيره بإنتاجها، حيث تستخدم الفنانة الألوان المائية المشربة بحمرة توحي باختيارها للحظة زمنية ما مرتبطة بزاوية ميل أشعة الشمس على مدخل الخان دون أن تصنع تظليلاً واضحاً أو قوياً، بل هي الخطوط الشجاعة التي تؤكد الكتل والمساحات والبنايات، تعلو فوق المشهد لتحلق صوب البيوت والشبابيك الخشبية غير المنضبطة الاستقامة بعد أن أكلتها الرطوبة و الشمس، الرايات ولوحات الإعلانات والمظلات المتماوجة التي تردد أقواسها وتسمو بها حتى تتحول إلى حل تشكيلي لأعلى اللوحة، لصفحة السماء المشربة باللون الأزرق المخفف بالماء التي تعطيه شفافية و ضوءًا.
|