القاهرة 06 اغسطس 2024 الساعة 11:07 ص
أما في رواية أفلاطون عن سقراط، فيقول برتراند راسل: "المشكلة في رواية أفلاطون هي أنه من أصعب الأمور أن تحكم إلى أي حدٍّ يريد أفلاطون أن يصوِّر سقراط كما وقع فعلًا في التاريخ، وإلى أي حدٍّ يريد بالشخص الذي يسميه «سقراط» في محاوراته أن يكون لسانًا معبِّرًا عن آرائه هو فحسب، فلم يقتصر أفلاطون على أن يكون فيلسوفًا، بل هو إلى جانب ذلك كاتب قوي الخيال شامخ العبقرية خفيف الروح، فلا يزعم أحد — بل ولا يدعي هو نفسه — أن الحديث الوارد في محاوراته قد حدث كما أورده، ومع ذلك فهذا الحديث طبيعي إلى آخر حد، والأشخاص لا تكلُّف فيهم — على الأقل في المحاورات التي كتبها في المرحلة الأولى — لكن براعة أفلاطون في الأدب القصصي هي التي تُلقي شيئًا من الشك عليه مؤرخًا؛ إن شخصية سقراط كما وردت في محاوراته شخصية مُنسقة الأجزاء، تثير اهتمام القارئ إلى أبعد الحدود، ومعظم الناس لا يستطيع خلق شخصية كهذه بخياله؛ لكنني أعتقد أن أفلاطون كان في مقدوره أن يخلق مثل هذه الشخصية، أمَّا هل كان ذلك ما فعله أو لم يكن، فذلك بالطبع موضوع آخر".
نفهم من ذلك أن أفلاطون كان محبًا مفتونا بسقراط إلى درجة كبيرة، ووضح ذلك أكثر في محاوراته، وخاصة محاورة الدفاع التي كتبها عن سقراط وهو يدافع عن نفسه، ويؤكد راسل أن أفلاطون لم يكتب خطبة الدفاع حرفا بحرف وإنما كتبها بعد أعوام مما تبقى في ذاكرته بعد أن أضفي عليها جزءًا قصصيا، وقد حضر المحاكمة أفلاطون وقد قصد في هذه المحاورة بصفةٍ عامة أن يكون مؤرخًا أمينًا يلتزم حدود الواقع، وعلى الرغم ممَّا يحيط بالموقف هنا من شكوك، فهو كافٍ لتقديم صورة عن شخصية سقراط قريبة جدًّا من التحديد الواضح.
ولتلمس سريعا الاتهام والمحاكمة لسقراط، فقد كان الاتهام أن سقراط شرير غريب الأطوار، يبحث في دخائل الأشياء ممَّا يقع تحت الأرض وفوق السماء، ويقلب الباطل حقًّا في الظاهر، ثم يعلِّم كل هذا للناس، ولكن المؤرخين يرجعون هذا الاتهام الكيدي إلى أن معظم تلاميذ سقراط كانوا من الحزب الأرستقراطي وبعضهم كانوا في مناصب الحكم، ووجدوا في تعاليمه ما يخالف اتفاق الهدنة بين أثينا واسبرطة، أي أن محاكمة سقراط كانت لهدف سياسي.
ويقول برتراند راسل "كان موجهو الاتهام هم «أنايتس» وهو سياسي ديمقراطي، و«مليتس» وهو شاعر مأساة «شاب مغمور، طويل الشعر مسترخيه، متفرق اللحية، معوج الأنف»، و«لا يكون» وهو خطيب مجهول؛ زعم هؤلاء أن سقراط آثم في عدم عبادته للآلهة التي تعبدها الدولة، وفي إحلاله آلهةً جديدة محل هؤلاء، وهو فضلًا عن ذلك آثم في إفساده للشباب بتعليمهم وفق مبادئه".
في النهاية حكم على سقراط بالموت وبعد أن صدر ضده حكم بالإدانة، ورُفِضت العقوبة التي اقترحها من ناحيته، وهي أن يدفع ثلاثين «مينًا» (وقد عيَّن سقراط أفلاطون في هذا الصدد ليكون أحد ضامنيه في دفع الغرامة، وذكر أنه بين الحضور في المحكمة). خطب خطبةً ختامية فقال:
"والآن فيا أيها الرجال الذين حكموا عليَّ بالإثم، اسمحوا لي أن أتنبأ لكم لأنني مقبلٌ على موت، والناس ساعة الموت يوهَبون قدرةً على التنبؤ. إني أتنبأ لكم — وأنتم قتلتي — بأنني لن أكاد أرحل عنكم حتى ينزل بكم عقاب أقسى ممَّا أنزلتموه بي؛ فأنتم مخطئون إذا ظننتم أنكم بقتلكم الناس ستمنعون أي ناقدٍ من الكشف عن شرور حياتكم؛ فليس ذلك طريق الفرار؛ فلا هو ممكن ولا هو مشرف لكم، أمَّا أسهل الطرق وأشرفها، فليس هو أن تقصوا الناس، بل هو أن تصلحوا من أنفسكم ".
إن محاورة الدفاع التي ذكرها أفلاطون تقول إن سقراط رجل من طراز خاص شديد الثقة بالنفس، له قدرة جيدة علي التفكير، ويصل برتراند راسل إلى نقطة غريبة حيث يقول راسل "ويعتقد بأنه مهتدٍ بصوتٍ مقدس، ومؤمن بأن التفكير الواضح أهم ما تتطلَّبه الحياة الصحيحة، ولو استثنيت هذه النقطة الأخيرة، وجدته شبيهًا بالشهيد عند المسيحيين، أو بالرجل من فريق «المتزمتين»، ويستحيل عليك أن تُقر العبارة الأخيرة التي يستعرض فيها ما يحدث بعد الموت، دون أن تشعر بأنه قوي الإيمان بالخلود، وأن تشكُّكه الذي يتظاهر به تشكُّك مزعوم لا يصوِّر حقيقة نفسه".
وموضوع الصوت المقدس، أو الرعاية المقدسة لها حكاية في تاريخ سقراط عندما كان في الخدمة العسكرية حيث ظل يفكر وهو متسمر في مكانه منذ طلوع الفجر، وفي أول الظهيرة التفتت له الأنظار وهو واقف دون حراك ، فاجتمع حوله الجند وفرشوا حوله الحصير وظلوا ينظرون له في عجب طيلة الليل حتي فجر اليوم التالي، ثم توجه بالدعاء نحو الشمس ومضى في سبيله، وتكررت هذه الظاهرة معه رصدت مرة حينما دعاه أجاتون إلى مأدبة ورافقه إليها ارستوديموس، ولكن سقراط تخلف فجأة ووجدوه مسمرا مكانه في دهليز ثم أفاق لنفسه في منتصف المأدبة.
|