القاهرة 17 يوليو 2024 الساعة 06:12 م
بقلم: د. حسين عبد البصير
بعد وفاة ابن رشد عام 1198 ميلاديًا، تُرجمت فلسفته وشروحاته لفلسفة أرسطو إلى اللغة اللاتينية على يد عالم الرياضيات والفلكي والكيميائي الأسكتلندي مايكل سكوت (1175-1232)، مما جعلها متاحة للفلاسفة والعلماء في أوروبا الغربية. وبذلك لعب دورًا محوريًا في نقل أفكار ابن رشد إلى العالم الغربي.
تعلّم سكوت اللغة العربية في مدينة طليطلة في الأندلس، التي كانت مركزًا للعلم والترجمة في ذلك الوقت، وكان يُعتبر أعظم مفكر في زمانه. انتشرت وأثرت تلك الترجمات بشكل كبير على الفكر الأوروبي. وأدت إلى نشوء التيار الرشدي. وأسست حركة من المفكرين الأحرار يُدعون "الرشديين"، الذين اعتنقوا أفكار ابن رشد. كان من أبرز أولئك المفكرين سيجر البرابرسوني وبونيفاس الثامن ودانتي أليجيري.
هدف التيار "الرشدي" الأوروبي إلى خلق توازن بين الدين والفلسفة، والدعوة إلى إيقاظ العقل من غيبوبة الغوص في اللامعقول والباطنية الروحية. أفرز ذلك تيارًا باسم "الرشدية المسيحية" أو "الرشدية النهضوية"، والذي حمل مشعل النهضة في أوروبا. بطبيعة الحال، تصدت المؤسسات الدينية لذلك التيار وكفّرت الرشدية وأتباعها بشكل عام.
وصل الأمر إلى حد المطاردة والقتل لكل من يعتنق الرشدية. ولم توقف تلك المطاردة انتشار أفكار ابن رشد بل زادت من نقاشها وتداولها، مما ساهم في تشكيل الفكر الأوروبي الحديث ودفع عجلة النهضة الأوروبية. كانت الرشدية حركة فلسفية تهدف إلى التوفيق بين الدين والفلسفة. حيث اعتمدت على شروحات ابن رشد لأرسطو، وسعت إلى استخدام العقل كأداة لفهم العالم والدين. كان لهذا التيار تأثير كبير في تطوير الفكر العقلاني والعلمي في أوروبا، مما ساعد في تمهيد الطريق للنهضة الأوروبية.
واجهت الرشدية معارضة شديدة من المؤسسات الدينية، التي رأت في ذلك التيار تهديدًا لعقائدها وسلطتها. كان من أبرز المناهضين للرشدية توماس الأكويني، الذي وضع تصورًا لفلسفته يرد فيه على الرشديين. وكتب العديد من الأعمال التي تهاجم أفكار ابن رشد وأتباعه، خصوصًا كتابه "الخلاصة ضد الوثنيين"، حيث كان يقصد بهم المعتنقين لأفكار ابن رشد. وأدى ذلك الصراع بين الرشديين والمؤسسات الدينية إلى اضطهاد واسع النطاق. وكان إعدام كبير الرشديين، سيجر البرابرسوني، عام 1284 من نتائج ذلك الاضطهاد.
ورغم تعرض أتباع الرشدية للاضطهاد والملاحقة، لم تتمكن تلك المعارضة من إيقاف انتشار أفكار ابن رشد. بل إن الجدل والنقاش حول تلك الأفكار ساهم في تعزيزها وجعلها أكثر شهرة وتأثيرًا.
واستمرت أفكار ابن رشد في التأثير على الفكر الأوروبي حتى بعد العصور الوسطى. أسهمت تلك الأفكار في تشكيل الأسس الفكرية لعصر التنوير، حيث أصبح العقل والتفكير النقدي أدوات أساسية لفهم العالم وتحقيق التقدم. الفلاسفة الأوروبيون تأثروا بشدة بأفكار ابن رشد وساهموا في نشرها وتعزيزها.
تؤكد قصة ابن رشد على أهمية الانفتاح على الأفكار الجديدة وتقبلها كوسيلة لتحقيق التقدم والتطور في المجتمعات. يُظهر ذلك النموذج التاريخي كيف يمكن للأفكار الفلسفية أن تعبر الحدود الثقافية والجغرافية، وتؤثر بشكل عميق على تطور الحضارات. من خلال تبني التفكير العقلاني والانفتاح على الأفكار المختلفة، يمكن للمجتمعات تحقيق تقدم كبير في مختلف المجالات.
وتُظهر قصة ابن رشد وانتشار أفكاره كيف يمكن للفلسفة أن تلعب دورًا حاسمًا في تطور الحضارات. على الرغم من الاضطهاد والمعارضة، استمرت أفكار ابن رشد في التأثير على الفكر الأوروبي، مما ساهم في تطوير النهضة الأوروبية ووضع الأسس للفكر العقلاني والعلمي الحديث. تلك القصة تؤكد على قوة الأفكار الفلسفية وقدرتها على التأثير على مسار التاريخ وتقديم الحلول للتحديات التي تواجهها البشرية في مختلف العصور.
|