القاهرة 25 يونيو 2024 الساعة 10:19 ص
بقلم: شادي أبو ريدة
لَقَدْ مَرَّتِ المِنْطَقَةُ العَرَبِيَّةُ - خلال القرنين الأخيرين - بأَحْدَاثٍ سِيَاسِيَّةٍ وَقَوْمِيَّةٍ، وَحُروبٍ وَحِقَبٍ اسْتِعْمَارِيَّةٍ، وَهَجَمَاتٍ ثَقَافِيَّةٍ عَوْلَمِيَّةٍ، وَحَدَاثَةٍ أَخَذَتْ تُحَاوِلُ اقْتِلَاعَ الهُوِيَّاتِ الثقَافِيَّةِ مِنْ جُذُورِهَا، تَقْضِمُ بِأَسْنَانِهَا ثَوَابِت المُجْتَمَعَاتِ وَتَقَالِيدها، وتُخْفي الأيديولوجيات المسمومة، وتسترها بأغلفةٍ من الجماليات والحِليات الماكرة المتنكرة، منتهزةً فرصةَ أن الفنون الحداثية قامت على كسر القواعدِ فوق رؤوسِ أسراها ومسجونيها، فَكَانَ لِكُلِّ ذلكَ تَأثيرات وانعكاسات مباشرة على جميعِ المَنَاحي الحياتيَّة والوجوديَّة والثقافيَّة العربيَّة، وبخاصة في المجالِ الفنيِّ التشكيلي، وما شَكَّلَتْهُ الهَيْمَنة الغربية بِشَتَّى أنْمَاطِهَا الاسْتِعْمَاريَّةِ مِنْ مُحاولاتٍ ومخططاتٍ لتدميرِ وَمَحْوِ كُلّ مُحاولاتِ الشَّرْقِ العَربي لِلانْعِتَاقِ مِنْ رَبْقَةِ السيطرة العَوْلَمِيَّة الغربية وَسَلْبِيَّاتِهَا، والحِفَاظ عَلَى صَيْرُورَةِ هُوِيَّتِهِ وَتُرَاثِهِ وَخُصُوصِيَّتِهِ، من قِبَل فنانين أُصَلاء قرروا أن يحملوا فكرًا على ظهر تجاربهم الفنية، وأن يتحملوا تَبِعَاتٍ ثِقال، فكل فكر يحتمل الخطأ والصواب والنقد، والهدم أو استكمال البناء، وهي عملية شاقة لكنها ممتعة نافعة، تقينا شر استهلاك وهضم الثقافات المستوردة الجاهزة المعلبة، غير المحفوظة بضوابط وحدود الدين والقيم والأعراف والتقاليد القويمة، فيما يمكن أن نطلق عليه (الفن المقاوِم).
يقولُ ابنُ خَلْدُون (1332 – 1406م) في مُقَدِّمَتِهِ، حَوْلَ أنَّ المغلوبَ مُوْلَعٌ أبدًا بالاقتداءِ بالغَالِبِ: (والسببُ في ذلكَ أنَّ النَّفْسَ أبدًا تعتقدُ الكمالَ فيمن غَلَبَهَا، وانقادَتْ إليهِ، إما لنظرهِ بالكمالِ بما وَقَرَ عِندها من تَعْظِيمِهِ، أو لما تُغَالط به من أنَّ انقيادها ليسَ لِغَلَبٍ طبيعي، إنما هو لكمالِ الغَالِبِ، فإذا غَالَطَت بذلك، واتَّصَلَ لها اعتقادٌ فانتحلت جميعَ مذاهبِ الغالبِ، وتَشَبَّهَتْ به، وذلك هو الاقتداء).
وَلَوْلَا مُقَاوَمَة عدد لا بَأْسَ بِهِ مِنَ الفنانينَ العَرَب المخلصينَ لِفَنهِم وَشَرْقِيَّتِهِم وعُروبَتهم لهذهِ الهجماتِ الثقافية، وَتَفْعِيلهم للجهازِ المَنَاعِيِّ الثَقَافِي العَرَبِيِّ، بتكوينِ جماعاتٍ ومَدارسَ فنيَّة – نتمنى عودة تشكيل نظائر لها - تَضَعُ الفَنَّ العَرَبِيَّ عَلى دَرْبِ التجْدِيدِ والتحْدِيثِ، وتُحافظُ على الهُويَّة والتراثِ العَرَبِيِّ فِي آنٍ، مضيفة للفن الشرقي الأصيل تحويجة غربية وعالمية متنوعة المناهل والنكهات، وتضبط المذاق للمتذوق الذي يحب هذا التوليف الفاخر المنسجم المتعاشق والمتعانق، في سياق من التغريب المحلي العولمي، ولولا ذلك لأصيبَ الفنُّ العربيُّ في هذه الحِقْبَة الخطيرة بالتَّصَحُّرِ الوِجْداني والتحجر البَصَري، وهناك فنانون آخرون لا يزالون يعملون على أساليب فنية كَسُدت منذ زمن لكنها أصيلة وحقيقية، غارقة في المحلية، مدفونة في تربتها، مغمورة في أصالتها، في مقابل أساليب فنية معاصرة رائجة وذائعة، لا تحمل ذات القيم العميقة والصادقة، لكنها متفسخة متشرذمة لا ترابط أو رابط بينها ولا ضابط، تعكس دواخل فنانين تائهين ضائعين ضلوا طريقهم، لكنهم ارتضوا مرابع التيه ممشًا ومسكنًا ومصيرًا.
إن الفنان التشكيلي هو أحد قادة الرأي، بل يتواجد ويتموقع في المقدمة، على الجبهة المكشوفة الخطرة المرئية من الجميع. فَقَد اسْتَخْدَمَ الغَرْبُ آلاته الإعلامية الأخْطَبُوطِيَّة الضخْمة، صاحبةُ الصوْت الأعلى، لِتَكْرِيسِ هجماتٍ ثقافيةٍ، تُرَوِّجُ وَتُرَسِّخُ بأنَّ الفَنَّ التشكيليَّ الحديث والمُعاصر في مُجْمَلِهِ هُوَ نَبْتَةٌ وَثَمَرَةٌ أوروبية ثم أمريكية بامتياز، وَتَطَوُّر طَبِيعي للفّنِّ الغربيِّ الذي بَدَأَ بعصرِ النهضةِ في القرنِ الخامسِ عشر، وقاموا بِغَرْسِ هذه الأفكارِ المَغْلُوطَة في بعضها، والمَنْقُوصَة في بعضها الآخر، في الوعي واللاوعي الجَمْعِي العالمي عمدًا ووفقَ مُخططٍ مَدروسٍ، وهو الأمرُ الذي يُجافي الحقيقةَ تمامًا، بل إن حضارةَ الشرقِ – التِي لا تَنْضبُ مَوَاهِبَهَا وَفُنُونهَا أبَدًا - هي مَهْدُ الحضاراتِ الإنسانيةِ الحديثة وَهَامَتُهَا، وهيَ مَنْ عَبَّدَت الطرقَ والسبُلَ لتلك الحضارات، التي تَقَاطَرَت وتَتَابَعَت بعد ذلك. وهو ما أكده الفيلسوف الفرنسي المُنصف بول فاليري (1871 - 1945م) عندما تناول الفن العربي الإسلامي، بقوله: (إن المُخَيِّلَةَ الاسْتِنْبَاطيَّة الأكثر تحررًا، والتي وَاءَمَتْ بشكلٍ باهرٍ بين الصرامةِ الجَبْريَّة ومبادئِ الإسلام، التي تُحَرِّم دينيًا كُلَّ بحثٍ عن محاكاةِ الكائناتِ في النظامِ التشكيلي، هي التي ابتكَرتِ التَوْرِيقَ، وأنا أحُبُّ هذا التحريم، فهو يُجَرِّدُ الفنَّ من عِبادةِ الأصْنامِ، ومن الخيالاتِ الزائفة والحَكْيِّ، والاعتقادُ الساذجُ ومحاكاةُ الطبيعةِ والحياة، أيْ من كل ما ليسَ خالصًا، ومن كُلِّ ما لا يكونُ خِصْبًا بِذاتِهِ، بحيث إنه يُطَوِّرُ مَصَادِرَهُ الباطنيَّة، ويكتشفُ بذاتهِ حُدودهُ الخاصة، ساعيًا إلى بناءِ نَسَقٍ من الأشكالِ يكونُ مُسْتَنْبَطًا فقط من الضرورةِ والحريةِ الواقعيين التي يقومُ بإِعْمَالِهِمَا).
إنَّ الفنَّ الغَرْبِيَّ الحديث في كثيرٍ من صُوَرِهِ ومدارسهِ، إذا قُمنا بالبحثِ خَلْفَهُ وَفْقَ مَنْهجٍ جِينْيَالُوجِي، سَنَجِدُ أنهُ قامَ على التبسيطِ والاختزالِ والتجريدِ الإسلامي التوْحِيدي، الذي كانَ إحدى الأَنْوِيَة الأساسية للثورةِ الفنيةِ التشكيليةِ الغربية التي حَدَثَتْ في القرنِ العِشرين، وذلكَ باعْترافِ أسَاطِينِ الفَنِّ لَدَى الغرب أنفسهم، الذينَ انْبَهَرُوا بالفنونِ الإسلاميةِ من حيثُ الجَمالياتِ الفكريةِ والروحيَّة، والدِلالاتِ السيمْيَائِيَّةِ، التي تفتحُ أبوابَ التأمُّلِ والخيالِ على مِصْرَاعَيْهَا، بَدَلًا من جمالياتِ الفُنون الغَرْبيَّة الماديَّةِ السطْحية الشكليَّة، والاكتفاء بنسخ الواقع كالمرآة الغبية.. كذلك انْبَهَرَ فنانو الغرب باستقلاليةِ الألوانِ الشرقية، وَصَفَاءِ الأشكال، وفاعليَّةِ الخُطوط وأهميتها، والهندسية التَسْطِيحيَّة الاختزاليَّة المُطْلَقَة، وجماليات الزخرفة والتوْرِيق، بِإِنشَادِها وإيقاعاتها الصامتة المسموعة، التي تَتَرَنَّمُ في فضاءِ المُخَيِّلَة الفسيحة، وتَتَرَدَّدُ في أركانها؛ وكذلك القيم الجمالية للحُروفيةِ العربية، التي حاول الغربُ اقتباسَها باستخدامِ الحروفِ الإنجليزية، وصياغاتها البصرية في الأعمال الفنية، وصِبَاغَتهَا بالصِّبْغَةِ العربية، لكن الفارقَ كانَ كبيرًا بين جمالياتِ الخُطوط العربية بمُخْتَلَفِ أنواعها، وجماليات الخُطوطِ الإنجليزية أو غيرها من اللغات العالمية.
وقَدْ تَشَابهَ الفَنُّ الإسلاميُّ مع فنونِ الحضاراتِ القديمةِ، من حيثُ الاعتماد عَلَى الرَّمْزِ أكثرَ منَ الصورةِ، بينما اعتمدَ الفنُّ الغربيُّ مُنْذُ الفن الإِغْريقي حَتَّى نِهَاياتِ القَرْنِ التاسِعِ عَشَر، عَلَىْ الصورةِ بشكلٍ أسَاسِيٍ أكثرَ مِنَ الرمْزِ، وهذا التَّأَثُّرُ والتَّأْثِيرُ كانَ طبيعيًا ومنطقيًا، فلا بَأْسَ من تَضَافُرِ الحضاراتِ وتَشَابُكهَا فِي نَسِيجٍ واحدٍ - إِنْ أمْكَنَ ذلكَ - بِحَيْثُ تَتَكَوَّنُ حَضَارةٌ تَعَدُّدِيَّة، مُتَجَاوِزَة للذاتَوِيَّةِ والأَنَاوِيَّة، دُونَ إِحْدَاثِ اضطِرَابٍ للهُوياتِ أو تَشْوِيهٍ لَهَا، أوْ أَنْ تَتَقَاطَعَ تِلْكَ الحَضَارَاتِ فِي نِقَاطِ التقاءٍ، لِتَتَحَاوَرُ وَتَتَسَاجَلُ وتتثاقف فِيمَا بَيْنَهَا، أَوْ تَمْتَزِجُ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ – لا بأس - ثُمَّ تَفْتَرِقُ فِي مَسَارَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ بعد تلك العملية التلاقحية المفيدة، وَلَكِنْ مِنَ الحَيْفِ والجَوْرِ أَنْ يَتِمَّ إِخْفَاءُ هَذَه التفاصيل والحقائق من التَّارِيخ التنظيري وإغفالها وَطَمْسها.
|