القاهرة 18 يونيو 2024 الساعة 12:28 م
بقلم: د. هويدا صالح
إن السيرة الروائية تصنف إجناسيًا باعتبارها أحد تجليات طرائق السرد في الرواية الجديدة، فهي ليست سيرة ذاتية أو حتى سيرة غيرية صريحة، إنما طريقة جمالية يحاول الكاتب من خلالها كتابة سيرة روائية لشخصية تاريخية، يراوح فيها ما بين الإحالي الوثائقي والتخييلي. هكذا راهنت منى الشيمي على تلك المزاوجة بين الإحالي المرجعي والتخييلي في روايتها التي صدرت قبل أيام"الأمير يوسف كمال في رواية أخرى" عن دار الشروق بالقاهرة.
ربما يتوقف القارئ قليلا أمام الوثائقية التي تتناول سيرة حياة الأمير يوسف كمال وهو أحد أبناء الأسرة العلوية المالكة في مصر والتي انتهى حكمها في بداية الخمسينيات من القرن العشرين. لكن ما يدفع القارئ إلا استبعاد السيرة الغيرية الصريحة أن الكاتبة بوعي، وفي العتبة الأولى للرواية أشارت إلى "في رواية أخرى"، وكأنها تخاتل القارئ وتتركه لخيارين، فإما أن يعتقد أنها سيرة غيرية صريحة وموثقة أو يختار الاعتقاد في أنها رواية ورؤية منى الشيمي لسيرة الأمير، تقول:"انتظرتُ، وأنا أشعر بالرهبة، ليس لاقتراب كشف بعض الغموض عن شخصية بطلي فحسب، أو لوجودي، لأول مرة في عيادة للعلاج النفسي، ومرجعيتي مستمدة، حتى الآن على الأقل، من الدراما!".
علاقة الأمير بالهوية البصرية للوطن:
يُعرف الأمير يوسف كمال بأنه كان حريصا على المشاركة المجتمعية في الشأن المصري الوطني، كما عُرِف أيضا بأنه كان جوّادا ينفق بسخاء على العمل المجتمعي العام، ويحرص على تنمية قرى الصعيد وتطويرها ، لكن يظل حبه للفنون الجميلة أكثر ما يميز شخصيته، حتى إنه كان يجوب العالم بحثا عن القطع الفنية النادرة ليهديها للمتحف المصري.
ولما طرح النحات الفرنسي (جيوم لابلان) فكرة إنشاء مدرسة للفنون الجميلة تحمس لها الأمير يوسف كمال وأبدى دهشته من عدم سعى المسؤولين في مصر لإحياء الفن المصري، وعزم على تنفيذ الفكرة وظل هو ولابلان يخططان لإنجاز المشروع ودام التشاور والدراسة لستة أشهر ، وفى 13 مايو 1908 كانت المدرسة التي أسسها يوسف كمال من حر ماله قد فتحت أبوابها لأصحاب المواهب وبشكل مجاني تماما، ودون التقيد بسن، بل كانت تتولى توفير أدوات الرسم بلا مقابل وكان القبول بها لا يحتاج سوى الخضوع لاختبار قبول.
وربما لو لم يفعل ذلك ما كانت الفرصة أتيحت أمام رواد الفن التشكيلي المصري وعلى رأسهم محمود مختار صاحب تمثال نهضة مصر ليقودوا النهضة التشكيلية المصرية.
المثقف يوسف كمال:
يذكر للأمير يوسف كمال أنه في عام 1914م عرضت عليه رئاسة الجامعة لكنه اعتذر واكتفى بأن يكون عضواً في مجلس إدارتها، وحينما اضطر حسين رشدي باشا للتخلي عن الجامعة اختير هو رئيساً لها، وفى فترة رئاسته هذه كان يرسل النوابغ من طلابها للدراسة في الخارج على نفقته الخاصة.
كما أنه كان مغرما بالجغرافيا وأدب الرحلات، وحرص على نقل الكثير من هذه المعرفة، فقام بترجمة بعض الكتب الفرنسية التي اختارها فنقلت إلى العربية وطبعت على حسابه منها "وثائق تاريخية وجغرافية وتجارية عن أفريقيا الشرقية" من تأليف مسيو جيان و"المجموعة الكمالية في جغرافية مصر والقارة الإفريقية" " باللغة الفرنسية وكتاب (بالسفينة حول القارة الإفريقية)، و(رحلة سياحة في بلاد الهند والتبت الغربية وكشمير 1915) . وقد منح مقتنياته الإسلامية للمتحف الإسلامي وأهدى آلاف الكتب المصورة إلى دار الكتب وجامعة القاهرة. لكنه كان يشعر بالتهميش السياسي من قبل سرايا الحكم، فانشغل بذاته، ولم يشارك في صراع الأمراء على الحكم ولا الشأن السياسي العام :"مرت أمامي أحداث وضع الدستور، نجاح سعد زغلول في الانتخابات، تشكيله الوزارة، مقتل سير لي ستاك سردار السودان. تفرَّق حلف الأمراء المارقين، لم يتبق إلا عمر طوسون، ظل ينشر مقالاته عن ضرورة تمسّك مصر بالسودان، مقابل محاولات إنجلترا فصله عن مصر. لم يكن ثمة شيء أفعله إلا رحلات الصيد، والاهتمام بتحقيق ذاك الإنجاز، وضعت عليه آمالي".
أفلتت منى الشيمي من الوقوع في غرام الشخصية أو إدانتها، فلم تصوره كشخصية مثالية، ولم تركز على حبه للفنون وترحاله الجغرافي وما قدم لمصر والمصريين من ثقافة ومعرفة ليس أبرزها فقط "مدرسة الفنون الجميلة" التي أنشأها في سرايا درب الجماميز بالقاهرة الفاطمية. بل صورته في حالات من الضعف الإنساني والارتباك الهوياتي، فقد كان الأمير حفيد أحمد رفعت الذي أشيع أن الخديو إسماعيل قتله وتولى مكانه الحكم، فلم يكن كمال مؤثرا في سياسة الأسرة المالكة أو علاقتها بالشعب أو حتى الإنجليز الذين كانوا السلطة المحتلة في ذلك التوقيت، بل انشغل الأمير بذاته وأحلامه الخاصة، كما انشغل بهويته الجنسية المرتبكة.
جماليات السرد :
من خلال الإيهام بالوثائقية ورحلة الراوي الضمني الذي هو وجه المؤلفة للبحث عن تفاصيل حياته، والاستقصاء البحثي عن وجود الأمير في جنوب مصر أفلحت الكاتبة أن تستحوذ على اهتمام القارئ الذي تصور أنه سيقرأ سردا تاريخيا.
كما أنها أفادت من وجودها الجمالي كراوية ضمنية من أن تكتب رؤيتها للعالم وتربط الماضي بالحاضر، بل وتسقط على الحاضر بغية كشف المسكوت عنه في أحوال مصر في اللحظة الراهنة.
كذلك قدمت الكاتبة للقارئ خلطة جمالية ممتعة، التشويق والإثارة لتصوير حياة القصور، ودسائس الخدم والجواري وعلاقاتهم بالسادة والأمراء عبر لغة سهلة حريصة على تقديم مساحات من الوصف والسرد البصري.
كما أنها وظّفت تلك العلاقة الجدلية بين زمن القصة الذي هو حياة الأمير وسيرته الذاتية الوثائقية والمتخيلة، والزمن السردي فقد بدأت من رحلة البحث عن سيرته وقامت بالارتداد الزمني عبر الفلاش باك لنعايش معها هذه السيرة الروائية.
كذلك أفلحت الكاتبة في رسم الشخصيات وأبعادها النفسية مع حرصها على أن يتقبل القارئ ضعفها الإنساني وصراعاتها وقلقها الوجودي. بل حاولت الكاتبة تخيل الأسباب النفسية وراء هذه الصراعات، بل حتى الأسباب النفسية وراء الانحراف الهوياتي الجنسي لدى بطلها:"ربما الجواري كنَّ على دراية بنفوس أسيادهنَّ لدرجة لا أقدِّرها! يتلاعبن بهم بطريقتهن! ترى هل دفعه رفض واحدة منهن للإخفاق في البداية، فلجأ إلى الخدم من نوعه نفسه؟! ربما احتقر الجواري بعدها. هل كان يحتقر أمه من العمق لأنها ليست أميرة؟!"
كذلك حاولت الكاتبة أن تقدم مساحات من التحليل النفسي للشخصيات وبنائها الروحي، وهذه التحليلات النفسية كانت تمنح القارئ فرصة للتأمل والتقاط الأنفاس من الأحداث السردية المتلاحقة، تقول وهي تتحدث عن التكوين النفسي ليوسف كمال الطفل:
"نقص إحساس الطفل بالتعلُّق الآمن والقبول يجعله يعاني من الإحساس بالرفض والبعد وخلق المسافات بينه وبين الآخرين. نقص إحساسه بالاستقلالية والقدرة على اتخاذ القرار، حتى في أموره الصغيرة كاختيار الملابس والطعام واللعب، يجعله يعاني من الإحساس بانعدام الكفاءة، إذا مُنِع من التعبير عن رأيه، أو قوبل بالسخرية والتسفيه، يصبح مهزوزًا وخاضعًا لسيطرة الآخرين، يفتقد القدرة على التعبير عن نفسه. إذا انتهكت حدوده الخاصة يعاني من فقدان القدرة على احترام حدوده وحدود الآخرين، وإذا منع من اللعب يشعر بقية عمره أن قيدًا يكتِّفه".
إنها رواية فيها من المتعة والجماليات السردية ما يجعلها تستحوذ على اهتمام القارئ حتى النهاية.
|