القاهرة 29 نوفمبر 2022 الساعة 05:25 م
بقلم: ماثيو ريسز
ترجمة: سماح ممدوح حسن
سوف نقدم مراجعة لكتاب "المدرسة الهاربة من النازية"، تأليف ديبورا كادبوري، عن قصة مدرسة داخلية مختلطة نُقلت بالكامل من ألمانيا هتلر، إلى ريف كينت بإنجلترا، المدرسة ناقصة هيكليا لكنها مكتملة وجدانيا، فى مايو 1926 افتتحت "آن إيسنجر" مدرسة داخلية تقدمية فى مدينة "أولم" بألمانيا. وعندما وصل هتلر إلى السلطة 1933، أدركت أن النظام الجديد يعارض كل ماتؤيده. وعن هذا كتبت "ديبورا كادبورى" التالى:
"عقدت العزم على نقل مؤسستها بالكامل، أقفالها ومخازنها، وانطلقت بأقصى سرعة هاربة خارج ألمانيا رغم أنف السلطة النازية"..
"بمجموعة متقدمة مكونة من ستة معلمين وستة فتية وفتيات وصلوا إلى إنجلترا وانتظروا انضمام البقية إليهم".
بعدها بأسبوعين وصل خمسة وستون طفلا آخرين. ولضمان سرية عملية الانتقال هذه تفرّق التلاميذ إلى ثلاث مجموعات وخرجوا بذريعة الذهاب فى رحلة ليوم واحد كل فريق تحت إشراف واحد من موظفى المدرسة.
وبهذه الطريقة نشأت مدرسة "بونس كورت". وكانت المدرسة مؤسسة جرمانية بامتياز معظم التلاميذ والمعلمين ألمان. ورغم النصيحة الدائمة لهم بالتحدث باللغة الإنجليزية إلا أنه كان لبعضهم لهجة ألمانية قوية ظلوا محتفظين ومتعاملين بها فى ريف كينت ثم شروبشاير خلال الحرب العالمية الثانية.
كان العديد من الموظفين المتحمسين لفكرة الهروب من ألمانيا النازية يمتلكون مؤهلات متقدمة بشكل كبير، فمثلا كان الشخص المسؤول عن مجرد إدراة المحركات كان بالأساس مخرجا للمسرح الألمانى، بينما كان مدرس الرياضيات بالمدرسة عالم فلك متميز. وفى المدرسة كان هناك تركيز ملحوظ على الثقافة الجرمانية التقليدية. وكما تقول المؤلفة "غالبا ما اقترح مدرسوا الموسيقى على تلاميذهم أداء أوبرات جلبرت وسوليفان".
زاد عدد التلاميذ بالمدرسة بعد انضمام بضعة تلاميذ إنجليز إليها بالإضافة للأطفال الذين وصلوا إلى "كيندر ترانسبورت". ثم وصول المجموعة الأكثر صدمة من الأطفال من الذين نجوا من معسكرات الاعتقال أو ممن عاشوا مختبئين فى أنحاء أوروبا التى سيطر عليها النازيون.
وصفت "كادبورى" أحد أولئك الأطفال فى كتابها وقالت "رفض هذا الطفل أكل الخضروات لأنها كانت تذكرّه بالعشب الذى اضطر لأكله ليبقى على قيد الحياة".
لقد كان استمرار المدرسة دائما ما يمثل تحديا بالنسبة ل "آن إيسنجر" حيث تفشى مرض شلل الأطفال، ودائما ماكانت تواجه انقطاع الكهرباء والتدفئة غير الكافية، بالإضافة للأمر الرسمى الموجّه إليهم بمغادرة موقع المدرسة (الأصلى) فى كينت خلال ثلاثة أيام، والعواصف الثلجية التى قطعت طريق إمدادت الطعام.
طالما آمنت "إيسنجر" بأن التعليم يجب أن يكون عن المهارات العملية بالقدر نفسه عن المهارات الأكاديمية. وبسبب النقص الدائم للأموال فى إنجلترا جعل لزاما على التلاميذ دائما القيام بأعمال منزلية كالبستنة والنجارة وإطعام الدجاج.
لم تكن المجتمعات المحلية فى إنجلترا، دائما متعاطفة مع الألمان داخل أوساطهم وقد طبّق مفتشو المدارس قواعد صارمة بدرجة لا تحتمل، فبحلول عام 1940 مثلا اعتبروا أن كل المعلمين المولودين خارج إنجلترا والتلاميذ ممن تزيد أعمارهم على السادسة عشرة "أجانب أعداء".
ومع ذلك، وحتى بعدما أغلقت المدرسة أبوابها فى عام 1948، كان هناك إنجازات ملحوظة، بعدما ساعدت العديد من الأطفال الذين مروا برعب لا يصدق على بناء حياة جديدة لأنفسهم.
تخرج في المدرسة 900 تلميذ من بينهم الرسام "فرانك أورباخ" ورسام الكاريكاتير والثورى "جيرارد هوفنونج" وعالم المناعة "ليزلى برنت" الذى فاز عن عمله الأخير مع بيتر مدور بجائزة نوبل. و"ريتشارد سونيفيلدت" المترجم الرئسى للمدعى العام الأمريكى فى محاكمة نورمبورج. إذا ماهو سر نجاحها؟
"حضرت والدتى أيام "بونس كورت" وأنا أنتجت ذات مرة فيلما إذاعيا وثائقيا عن آخر اجتماع لم شمل مدرسى، وأنا بنفسى أجريت العديد من المقابلات مع أشخاص كانوا فى هذه المدرسة واستمعت لبعض قصصهم المذكورة فى الكتاب هنا، وإن لم أذكر كل القصص".
بَنت "كادبورى" سردا حيويا وجذابا، فرغم أن"آن إيسنجر" اتسمت بالعطف الشديد إلا أنها كانت متشددة أخلاقيا وحريصة على المظاهر إلى حد ما، ولم تعش الحياة أبدا بشكل فردى.
فى الكتاب العديد من محاولات وصف"روح بونس كورت" إلا أنها كانت أوصافا غامضة بعض الشيء ومثالية، لكن ربما تكون أكثر الأوصاف لفتا للنظر هى وصف أحد التلاميذ السابقين للمدرسة بأنها "أديرت بمزيج معقد من الإنسانية وإيمان طائفة الكويكرز، والقيم الليبرالية واليهودية، يجمعهم عقل امرأة كان هدفها الوحيد فى الحياة هو خدمة الأطفال".
وقالت أخرى وقد نُقلت حينها من مدرسة إنجليزية حيث علمت حينها عن "تيودور وستيوارت" وذُهلت من أسلوب التعليم الذى كان على حد قولها "أشبه بالمحادثة" وطُلب منها حينها كتابة مقالات عن قضايا الساعة مثل"العزلة الأمريكية، والإمبريالية".
تكشف "كادبورى" أيضا بعض الأساليب التعليمية المعتمدة فى "بونس كورت" التى اتبعوها للتواصل مع التلاميذ الذين تعرضوا للصدمات أكثر. وقالت "فى إحدى المناسبات التى لا تُنسى تحدى مدرس الرياضيات، هانز ماير، أحد الصبية وكتبت قائلة "استجاب الولد لاضطرابته الداخلية وانخرط فى غضب مسعور"، وعندما حاول ماير احتواءه باحتضان محبب قوى بصق الولد فى وجهه وحينها أخبره المعلم "انطلق ابصق، اخرج كل ما بنفسك عبّر عن دواخلك" واستمر الولد فى البصق على معلمه قبل أن ينخرط فى دموع أنهمرت وعجز عن السيطرة عليها.
أغلب صفحات الكتاب رائعة مؤثرة، لكن هناك شيء غير مرضِ فى تكوينه. فالنصف الثانى من فصول الكتاب تتناوب على ذكر روايات عن المدرسة نفسها وكيف تعرض بعض التلاميذ فيها قبل الانتقال لإنجلترا لاضطاد النازيين، وهذه المادة غالبا ماتكون مثيرة للرعب لكنها حتما تمثل جزءا عاطفيا يُلقى بظلاله على إنجازات "آن إيسنجر" البطولية.
نشر هذا المقال فى موقع صحيفة الجارديان 24 إبريل، 2022.
|