القاهرة 08 نوفمبر 2022 الساعة 10:43 ص
كتبت: سماح ممدوح حسن
منذ تواجد الإنسان على الأرض وهو يحاول التعبير عن مشاعره واحتياجاته بطرق عدة، منها اختراع اللغات والإيماءات وحتى الصرخات، يشبه فى ذلك تصرف أعضاء مملكة الحيوان عندما يعبرون عن احتياجاتهم بالزئير أو ترك رائحة معينة. ومن ضمن الوسائل التى عبّر بها الإنسان عن مكنوناته وما يريد، الرقص.
وسوف نركز هنا على الرقص فى القارة السمراء، أفريقيا، وخاصة دول جنوب القارة. والتى وعلى الرغم من أن كل أحوالها الصعبة، إلا أن شعوب تلك المناطق لا يزالون يمارسون المقاومة والتعبير عن إنسانيتهم بأبدع وأقدم الطرق التى عرفوها يوما، الرقص.
• بداية الرقص فى الجنوب:
يذكر الكثير من الباحثين والنقاد أن شعوب أفريقيا من أول شعوب العالم فى معرفة وابتكار الرقص والموسيقى. وبدأ الرقص فى جنوب القارة الأفريقية قديما عندما حاول إنسان القارة محاكاة حركات الحيوانات التى عاش بينها وحاول اصطيادها. وبما أنه من الواضح أن عادة التوثيق النابعة من رغبة فى الخلود لدى البشر عامة، فقد خلّد هؤلاء محاولاتهم الأولى فى الرقص على إحدى الجداريات القديمة فى دولة جنوب أفريقيا، وكانت عبارة عن أشخاص يقلدون حركات حيوان يوشكون على اصطياده بعصى تشبه الحربة.
• الرقص الأفريقى والتناغم مع البيئة:
من أهم السمات التى تميّز الرقص الافريقى عن بقية أشكال الرقص فى العالم، هى الحركات السريعة، العنيفة، متناهية الخفة. فى الحقيقة لم يكن ذلك متعمدا ممن اخترعوه بل هى السمات التى فرضتها عليهم بيئتهم. فالقارة الأفريقية قارة الأدغال والحيوانات المتوحشة التى توجّب على البشر العيش بينها واصطيادها للعيش بها. ولن يكون من المنطقى أن يتحرك الإنسان هناك بوتيرة أبطأ من حيوان يطارده، وليس من الملائم أن يصارع صياد أسدا يتأهب للانقضاض عليه بالورود، ومن هنا جاءت السمات الحتمية للرقص الأفريقي.
• مرونة الرقص مقابل جمود الأفكار:
نشهد فى عصرنا الراهن ثورات فنية على كل النواحى ربما بدافع من ثورة الاتصالات التى جعلت الكل يألف ثقافة الكل، فلا شيء خفي. من ضمن هذه الثورات الثورة فى الفنون والرقص تحديدا. وهنا نتحدث عن الرقص الحديث، أو "رقص الشوارع" الذى يؤدى فى كل دول العالم وجاء بالأساس من الولايات المتحدة الأمريكية. لكن وأمريكا تلك القارة الحديثة من أين لها بهذا الرقص؟
بدأت الحكاية مع الاستعمار واستجلاب، أو بمعنى أدق اختطاف شعوب القبائل الأفريقية من على السواحل عبر السفن الأوروبية التى كانت تخطف هؤلاء بقوة السلاح لتستعبدهم فى أوروبا، وبعيدا عن هذا الفصل الدرامى لتاريخ دول جنوب أفريقيا والمخزى لدول أوروبا إلا أن محور حديثنا هو الرقص.
فهؤلاء المختطفين لم يكن ثمّة وسيلة للمقاومة يمتلكوها سوى المحافظة على ثقافتهم الأصلية ومن ضمنها الرقص، لكن بما أن الرقص يعنى المرونة التى لا تقتصر على حركات الجسد فحسب بل أيضا مرونة الأفكار، فقد استطاع هؤلاء بجانب المحافظة على إرثهم الثقافى الأفريقى مزجه ببعض الثقافات التى وفدوا إليها.
فقديما كانت منطقة الكاريبى عبارة عن مجمّع لثقافات وأعراق عدة أثرت كل منها فى الآخر بالاضافة لتأثيرات الثقافة الأوروبية الفرنسية والإنجليزية والإسبانية وغيرها.
وهذا ما يحدث الآن، سمه استردادا، سمه تأثرا، لكن فى النهاية تأثر العالم أجمع بتلك الثقافة أفريقية المنبع. فرقص الشوارع أو الرقص الحديث يؤدى فى أمريكا وفى أوروبا والبلاد العربية.
حتى أن أعتى مدارس الرقص الكلاسيكى أدخلت بعضا من حركات رقص الشوارع إلى رقصاتها الكلاسيكية. وبات الجميع يرقص أفريقي.
• الرقص لكل أغراض الحياة:
تطور الرقص الأفريقى قديما من تقليد حركات الحيوانات ليصير وسيلة اتصال بين القبائل وبعضها، ثم اتخذ من الرقص الوسيلة الأنجع لتعليم الصغار تقاليد القبيلة، ومن ثم تطورت الرقصات لكل الاغراض الدينية والاجتماعية وفى الحروب والموت والميلاد.
فكان ولا يزال الرقص فى أفريقيا لأغراض عدة، منها رقصات لا تزال قائمة لذات الاغراض حتى مع توافر البدائل الحديثة.
فمثلا الأغراض الدينية من الرقص، لا يزال حتى اليوم تمارسه قبائل "سان" فى جنوب أفريقيا، ناميبيا وبوتسوانا، وأنجولا. والرقص الدينى لديهم نابع من اعتقادهم الدامغ بالقوة الروحانية المقدسة للرقص.
تجتمع القبيلة بأكملها حول النار يرقصون لساعات طويلة حتى يدخل الجميع فى حالة تشبه الغيبوبة، والتى -بحسب اعتقادهم- توصلهم لعالم الروح. والرقصات الدينية متعددة الأغراض، فمنها ما يشبه صلوات الاستسقاء فى أوقات الجفاف الشديد، ومنها ما يشبه الدعاء للميت، ومنها ما يُستجدى بها لدرء الكوارث الطبيعية.
• جريوت.. رقصات درامية للتأريخ:
لكن من أشهر أنواع الرقص فى جنوب القارة والذى انتشر فى العالم أيضا هو رقص "جريوت"، جريوت هو شاعر أفريقى ومؤرخ قبلى وراوي للقصص الدرامية. ورقصته هذه عبارة عن "قصة راقصة" أو رقصات تروى التاريخ الشفهى للشعب بالحركات والموسيقى.
• الماساي والرقص الاحتفالى:
كما العالم أجمع، يعبر الناس عن فرحتهم فى المناسبات السعيدة بالرقص، وأشهر القبائل تأدية لهذا النوع هم قبائل "الماساي" في كينيا وشرق أفريقيا، والتى يتسابق فيها الشباب على القفز بأعلى درجة ممكنة لإظهار القوة والقدرة على التحمل. ويؤدى هذا الرقص حتى الآن فى الميلاد والزواج والذكرى السنوية وحفلات البلوغ.
ربما اشتهر شعب القارة الهندية بالاحترافية العالية فى تصميم وتأدية الرقص، حتى يُخيّل للرائى أن الشعب كله راقص محترف، إلا أن شعوب جنوب القارة الأفريقية يعتبرون هم الأكثر محافظة على رقصهم التراثى وتطويره ومزجه ونشره فى العالم أجمع.
|