القاهرة 08 نوفمبر 2022 الساعة 10:38 ص
بقلم: إيهاب يوسف
تحتل جائزة "نوبل" مكانة مميزة بين المثقفين والعلماء، بل تتجاوزهم لتصل إلى عامة الناس والأميين منهم. وربما لا تأخذ مثلًا جائزة "كارس" السويسرية، أو "ألكسندر فون هامبلدون" الألمانية أو أي جوائز عالمية أخرى، الاهتمام نفسه الذي تنفرد به "نوبل"، حيث تقلص المسافات بين العالِم والرجل العادي.
لست في حاجة لمعرفة ما هي كيمياء الفيمتو أو فهم حالة التعقيد التي تكون عليها حركة الذرات داخل جزيئات التفاعل الكيميائي بدقة، لتدرك مكانة وإسهام الدكتور "أحمد زويل" العلمي والإنساني الكبيرين، لكن يكفي أن تعلم بحصوله على جائزة "نوبل" في الكيمياء عام 1999. هذه الفكرة وحدها تُلخص لك كم الجهد المبذول وراء إنجازه، حتى قبل أن تعرف نوعية هذا الإنجاز، ما يدل على تأثير "نوبل" الضخم في أذهان الناس.
وما يدفعنا إلى تدقيق النظر فيمن يحصل على الجائزة، أن "نوبل" لا تقتصر على العلماء وحدهم في جوائز "الفيزياء، الكيمياء، الطب، الاقتصاد"، بل تُمنح أيضًا في "الأدب، والسلام"، ولما كان العِلم مُتناسقًا بصورة أوضح، كانت معايير اختيار أفضل عَالم واضحة المعالِم، بينما تختلف النظرة إلى السلام والأدب، لابتعادهما عن التناسق الذي يميز العلوم؛ فمثلًا، تختلف دائمًا النظرة إلى أي مشروع للسلام باختلاف أطرافه.
• مُسالِم نوبل أمام العالم
يتضمن السلام شريكا آخر يتنافر معه ولا يوجد بدونه، خاصةً أن أغلب مشاريع السلام تعقب حروبًا عادةً، وطبيعة الحروب تستلزم سلمًا مفترضًا أيًا كان شكله، وهو التناقض الذي بيّنه الجنرال والمؤرخ الحربي البروسي "كارل فون كلاوزفيتز" في قوليه الشهيرينِ "إن ضمان الحفاظ على السلام هو الاستعداد دائمًا للحرب" و"الغازي دائمًا مُحبًا للسلام". ولعل حالة التشابك والتعقيد بين الحرب والسلام هي التي تؤدي إلى تعدد وجهات النظر حول الجائزة وتفرض شعورًا من الشك والارتياب نحو الحائز عليها، كما تدعو إلى التساؤل الجاد، هل هو مُسالِمًا في أعين الجميع؟
للإجابة على هذا السؤال سأذكر مثالًا مازال حاضرًا في حياتنا إلى اليوم، وهو اتفاق السلام المعروف بـ "كامب ديفيد" في عام 1978م، وعلى أساسه أُسدل الستار على عمليات حربية ضخمة تمت بالفعل، ومُنح "أنور السادات" و"مناحم بيجن" جائزة نوبل للسلام في العام نفسه. وعلى الرغم من ذلك، لم تتوحد الرؤى والآراء حول مشروع السلام، وحول الحائزين على الجائزة؛ فكيف يمكن أن ترى سوريا "بيجن" مُسالِمًا وقد اغتصب منها هضبة الجولان في عدوان 1967م، ورفض تسليمها فيما بعد، مُعارضًا القرارات الدولية المتفق عليها في جينيف عام 1974م، ضاربًا بخرائط "فك الاشتباك" عرض الحائط. ثم ماذا يدفع الفلسطينيون إلى اعتباره -في يوم وليلة- رمزًا من رموز السلام في العالم؟
• الإنسانية والصراع الأدبي
تعد الجائزة الأدبية التي تقدمها "نوبل" كل عام، هي الأكثر إثارة للجدل من بين باقي الجوائز، لأنها كثيرًا ما تُمنح لأشخاص غير متوقعين. وإذا استبعدنا في الأدب تنوع الأجناس الأدبية وتباين الأفكار داخل الجنس الواحد، لا يمكن تجاهل التحيزات الأيدولوجية والسياسية في بعض الاختيارات، كأن يتم اختيار أديب نتيجة انتمائه لتيار معين؛ مثلما حدث عام 1958م مع الكاتب الروسي "بوريس باسترناك" بعد أن أظهر عداء واضحا للاتحاد السوفيتي في روايته الوحيدة وقتها "دكتور زيفاجو" التي نشرت عام 1957 في إيطاليا، وحصلت على الجائزة بعد شهور قليلة من نشرها، مما حدا ببعض النقاد مهاجمة "نوبل" معتبرين أن الحكومة الأمريكية والبريطانية تدخلتا سويًا لتُمنح له جراء نقده للاتحاد السوفيتي. وفي حين اعتبر النقاد الروس باسترناك خائنا، تكفلت وكالة المخابرات الأمريكية بترجمة الرواية لأكثر من لغة كنوع من الدعاية لتشويه الاتحاد السوفيتي، وهو الأمر الذي أكده "بيتر فين" و"بترا كويفي" الباحثان في صحيفة "واشنطن بوست" في كتاب "قضية زيفاجو"، وبينما احتدم الصراع (أدبي المظهر/ سياسي الواقع) بين أمريكا والاتحاد السوفيتي في ظل الحرب الباردة، أدرك باسترناك المشهد البائس الذي أُدخل فيه عنوة، ورفض الذهاب إلى ستوكهولم لاستلام الجائزة.
في مشهدٍ آخر، يظهر الجدل حول إغفال القيمة الحقيقية للجائزة التي حددها "ألفريد نوبل" نفسه وضمنها في وصيته، أن "تُمنح الجائزة لمن قدم خدمة كبيرة للإنسانية من خلال عمل أدبي وأظهر مثالية قوية"، بمعنى أن اعتبارات اختيار الفائز لا تتضمن تقييم جودة الكتابة الأدبية وحدها، بل تُقيِّم أيضًا المُثل التي يقدمها، باعتباره سيصبح مواطنًا عالميًا بعد حصوله عليها، وينظر إلى أدبه إذا ما كان يُثري القيم الإنسانية، فتتعدى المعايير براعة الأسلوب والمتعة الأدبية، إلى المضمون وهدف وغاية الكتابة من الأساس، وهو المبتغى العام الذي أراده "ألفريد نوبل" مُسبقًا، والميزة المفترضة والمرجوة من الجائزة. لذا نجد فلاسفة ومفكرين حصلوا على نوبل في الآداب رغم انقطاع الصلة بينهم وبين الكتابة الأدبية، فقط لأن إنتاجهم الفلسفي يُرسّخ القيم الإنسانية، مثل "رودلف أوكن، هنري برجسون، بيرتراند راسل"، فلابد للجائزة أن تنتصر للإنسانية قبل كل شيء.
لعل هذا ما أدى إلى علو الأصوات الرافضة لفوز الأديب النمساوي "بيتر هاندكه" بنوبل لعام 2019، وكالعادة وقفت الجائزة تدافع عن نفسها، حتى أصبح مظهر دفاع الأكاديمية عن معايير اختيار الفائز مألوفًا، ينتظره الكثيرون بقدر ما ينتظرون الإعلان عن الجائزة كل عام. والجدل القائم حول "هاندكه" لا يخص إرثه الأدبي، لكنه إنساني دون إلتباس، فالإنسانية باعتبارها القلب النابض لنوبل، تشارك إمكانيات الأديب في الترشيح، وتقاسم أدبه في النجاح والفوز.
وفي حين تلقى "هاندكه" تقديرا كبيرا لابتكاراته اللغوية، هوجم من أجل آراءه السياسية، بعد دعمه للنظام الصربي ورئيسه "سلوبودان ميلوسيفيتش" عقب اجتياحهم للبوسنة وقتلهم نحو ثمانية آلاف مسلم، وهو الرأي الشخصي الذي قد يمر دون تأثيرعلى مسار هاندكه الأدبي وفق معايير نوبل الإنسانية، لولا تطور الرأي إلى مجموعة مقالات عام 1996، نشرها فيما بعد في كتابه "رحلة إلى الأنهار.. العدالة لصربيا"، فلو لم يُقدِم هاندكه على نشر هذا الكتاب تحديدًا لكادت أعماله الإبداعية أن تخلو من أي نزعة عدوانية تجاه أي عرق، ولم يُتهم الرجل في إنسانيته من خلال أدبه، وربما خفت حدة النقد الذي طال أدبه بإلاجمال.
• السوق يفي بالغرض
أخذت الجائزة وجهة جديدة عند فوز "بوب ديلان" بها عام 2016، بينما كان التأرجح بين تأكيد الإنسانية مع (الفلاسفة والمفكرين)، والانتصار للأدب مع (هاندكه)، ضحت بهما معًا لتفوز "بالسوق". فالهجوم على ديلان ليس لأنه خرج عن الالتزام الإنساني بأغانيه في مواقف مختلفة مثل دعمه لعدوان إسرائيل عام 1982م على لبنان بأغنية "فتوة الحي"، وليس لاقتباسه بعض عبارات أغانيه من أشعار قديمة ومعروفة، حتى أن الخطاب الذي ألقاه بمناسبة فوزه بالجائزة لم يسلم من الاتهام باقتباسه من كتاب مدرسي، وهي تُهَم مُكررة في الحقيقة، لكن يكمن الانتقاد في أنه مغني من الأساس وليس أديبًا، فديلان نفسه عبر عن تفاجئه وقال "فوزي كان مفاجأة لأني كاتب أغنيات ولست كاتب كتب وأشعار، لم تتح لي الفرصة من قبل كي اسأل نفسي هل أغنياتي تعد أدبًا؟" الأمر الذي لم يحير ديلان وحده، فقد عبرت "نوبل" وقتها عن مكافأة الشيء الأكثر مبيعًا ورواجًا من حيث تداول الأغنيات وتحقيقها مبالغ ضخمة، وليس الأكثر قيمة أو تأثيرًا أدبيًا.
"نوبل" ليست مجرد جائزة، فلها من التأثير المعنوي على جموع الناس ما يفوق أي شيء آخر، ولن أبالغ إذا قلت إنها بمثابة جائزة مقدسة في أخيلة الشريحة الغالبة وتستحوذ على جزء كبير من آمالهم وطموحاتهم وتشكل أحلامهم، لذا من الضروري الاعتناء بتوضيح شروط ومعايير اختيار الفائزين، خاصة أن ألفاظ مثل "سلام، إنسانية، أدب" تحمل معاني كبيرة وأفكار فضفاضة، حتى لا يستمر مشهد دفاع الأكاديمية الهزلي عن الفائزين كل عام.
|