القاهرة 01 نوفمبر 2022 الساعة 10:24 ص
بقلم: د. محمود النوبي أحمد - وكيل كلية الألسن جامعة الأقصر
إذا حاول الباحث رسم خريطة لغوية لمصر الفرعونية وما حولها من بلاد؛ ارتسمت معه ثلاثة أقاليم لغوية تظهر هذه الأقاليم في صورة دائرتين متداخلتين، لتدخل مصر بينهما في مرحلة الوسط. (انظر الشكل)
إحداهما – وهي المعروفة اصطلاحًا بالسامية وهي لغة أهل المشرق العربي، والأخرى وهي المعروفة اصطلاحًا بالحامية، وهي تحديدًا - البربرية – التي تشمل المغرب العربي في شمال إفريقيا، وتبقى مصر في الوسط إقليمًا لغويًا محوريًا تتقاطع فيه هاتان الدائرتان، فمصر دول وسطية في أرضها ولغتها وسلوك أهلها وفي كل شيء.
ولم يطلق المصريون على لغتهم اسم "اللغة الهيروغليفية" كما هو معروف عند بعض الدارسين وبعض العوام لكن لفظ "هيروغليفي" كان يشير إلى اسم أول خط كُتبت به هذه اللغة، ويعني باليونانية "الكتابة المقدسة"، نظرًا لأن الكهنة كانوا يستخدمون هذا الخط في الكتابة على جدران المعابد.
إذن الهيروغليفية نمط للكتابة الرسمية على جدران المعابد والمقابر والتماثيل والألواح الحجرية والخشبية الملونة، وليست لغة، لأنها نوع من أنواع الخطوط يشبه إلى حد ما خط النسخ في لغتنا العربية المعاصرة الذى هو شكل لكتابة اللغة العربية، وليس هو اللغة العربية نفسها.
ثم انبثقت من رحم اللغة المصرية القديمة، اللغة القبطية الذي تزامن ظهورها مع بداية الاحتلال اليوناني لمصر، فكانت تُكتب في مجملها بحروف يونانية، ولعل اللغة القبطية بتداخلها مع اللغة المصرية والكتابة اليونانية هي التي فتحت الباب أمام شامبليون لمعرفة رموز حجر رشيد وتفهم الكتابة الهيروغليفية.
• كيف عرف العرب مصر؟
عرف العرب مصر منذ أمد بعيد، فقد تبادلوا معها التجارة, وعرفوها عن طريق الحروب, أو الجيوش العربية التي تمر على مصر ومنها إلى غيرها، إضافة إلى صلة النسب بين العرب والمصريين وهي صلة قديمة وجدت منذ عصر سيدنا إبراهيم عليه السلام بزواجه من السيدة هاجر المصرية, ثم تزوج النبي محمد صلى الله عليه وسلم بمارية القبطية رضي الله عنها أم إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا توقف دارس اللغة عند زواج سيدنا إبراهيم ثم سيدنا محمد من مصريتين، وحاول الدارس تتبع أخبار الزوجتين، تبين له عدم ورود أي نوع من الأخبار في كتب التاريخ أو كتب السير، أخبار تشير إلى اختلاف لغة الزوجة المصرية، ولا توجد أخبار تشير إلى غرابة نطق السيدتين رضوان الله عليهما، ولم ترد أخبار تشير إلى نوع من عدم الفهم بينهما وبين من عاش معهما سواء كان الزوج أو غيره، وهذا أمر ربما يشير إلى نوع من التقارب بين اللغتين، أو هو نوع من التقارب والمعرفة اللغوية بين شعبين.
وهناك قصة رواها الكندي(في الولاة والقضاة) ورواها المقريزي (في الخطط), عن قدوم عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى مصر قبل الإسلام.
فمما جاء في القصة: إن عمرو بن العاص وهو صغير انتقل مع والده في تجارة إلى مصر، وأنه اشترك مع أبناء كبراء مصر في واحدة من ألعابهم, وفيها أن من وقعت الكرة في حجره يحكم البلاد يوما, وقيل أن الكرة وقعت في حجر عمرو بن العاص، فأجلسه الحاكم إلى جواره يوماً كاملاً وكأنه يحكم معه، وهذه القصة لها دلالتها في وجود الصلة المباشرة بين العرب والمصريين منذ عصر ما قبل الإسلام، فعمرو بن العاص كان يذهب مع قوافل العرب التجارية منذ صغره، واستمر على ذلك في شبابه قبل الإسلام؛ لذلك قيل أن عمرو بن العاص هو صاحب فكرة فتح مصر, وأنه وصفها لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حتى أرسله إليها لفتحها.
ولما فتح المسلمون مصر نزلت القبائل العربية بمصر بأعداد كبيرة وتفرقوا في المدن والقرى حتى أنك ترى اللهجات المتعددة في مصر لهجات ناتجة عن تداخل اللغة المصرية القديمة واللغة العربية، فاللغة المصرية القديمة كانت لغة ذات لهجات متعددة، ولقبائل العرب لهجاتها المختلفة، فنتج عن ذلك كله ما نراه في اختلاف لهجات أهل مصر بين قرية وقرية ومدينة ومدينة؛ نتيجة لوجود هذه القبائل واختلاط لهجاتها باللهجة المحلية لأهل مصر.
ويتبين لدارس اللغتين المصرية القديمة والعربية أنهما من أصل واحد ثم افترقتا بما دخلهما من القلب والإبدال كما حدث في كل اللغات القديمة، فالألفاظ العربية لها مثيلتها في اللغة المصرية القديمة، وألفاظ اللغة المصرية القديمة لها مثيلتها في اللغة العربية، ونحن في حاجة ضرورية لتحديد كم المشترك من الألفاظ بين اللغتين المصرية القديمة والعربية وبالتالي رصد مدى التغير الصوتي والتطور الدلالي لكل لفظ من هذه الألفاظ، هذا الدور كان من المنطقي أن تقوم به – أو تقدّم الإسهام الأكبر فيه – معاجم اللغة المصرية القديمة ومعاجم اللغة العربية على حد سواء، لكن لأن اللغة العربية لا تقع في بؤرة اهتمام واضعي المعاجم الأولى للغة المصرية القديمة من الغربيين، نجد مثلاً أن المعجم الرئيسي للغة المصرية القديمة لا يضم من المشترك المصري/ العربي سوى ستة وستين لفظًاً على وجه الحصر، ضمن مجموع ثلاثمائة وتسعة من الألفاظ الساميّة، أكثر من نصفها – مائة و واحد وثمانون تحديدًا من اللغة العبرية.
بل صارت اللغة المصرية القديمة تدرس في جامعاتنا العربية باللغة الإنجليزية الخالصة منفصلة كل الانفصال عن الروابط العربية والبيئة العربية للغة، ومن جانبها لم تهتم المعاجم العربية حتى التي تم تأليفها في مصر بالربط بين اللغتين المصرية القديمة والعربية، على الرغم من وجود الرابط بل الروابط المؤكدة.
ولعل وجود صلات جوهرية بين قواعد اللغتين وبنية الكلمات والجمل أكبر دليل على صلة الرحم القديمة بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية فاللغة المصرية القديمة تشترك مع اللغة العربية في عدة خصائص، وفي أكثر من قاعدة وأداة، فمن ذلك مثلاً: أن اللغة المصرية القديمة فيها حروف الحاء والعين والقاف، وفيها حروف الجر، وفيها الاسم الجامد، والمشتق، والفعل بأزمانه، وفيها شيوع المصدر الثلاثي، وغلبة الفعل المعتل الآخر، ووجود الظرف (ظرف الزمان وظرف المكان)، وحروف العطف، والتذكير والتأنيث، وفيها المفرد والمثنى والجمع، والضمائر المتصلة والمنفصلة، والبناء للمعلوم والمجهول، والصفة تتبع الموصوف، والإضافة المباشرة، والإضافة باللام (كقولنا كتاب محمد وكتاب لمحمد) ، ثم النسب بالياء ، وفيها الحال والتمييز، والجملة الاسمية والجملة الفعلية، وتقدم الفعل على الفاعل، وإضافة تاء التأنيث في نهاية بعض الأسماء والصفات المؤنثة...الخ.
ومن أشكال الكتابة في اللغة المصرية القديمة الكتابة بالعلامات، "وتمثل كل علامة هيروغليفية صورة لشيء حقيقي عرفة المصريون القدماء، فلو نظرت إلى كلمة شونة وهي مكان لتخزين وحفظ الغلال تجدها في اللغة العربية الفصيحة وفي العامية المصرية وهي هي في اللغة المصرية القديمة برسمها الذي نعرفه في بيوتنا بالصعيد وبالشكل المعروف في صوامع الغلال الحديثة في كل محافظات مصر.
وانظر إلى كلمة كأس كما في الصورة وهي نفسها في النطق المصري القديم والنطق العربي بل وفي العامية المصرية أيضاً.
وتعبر صورة مخطط أرضى لبيت بسيط عن كلمة "منزل"، وتعكس علامة قدمين متحركين معنى فعل "يجيء"... وهكذا، فإن هذه العلامات تعبر عن أشياء تصورها أو كلمات مرتبطة بها، ويسمى هذا النظام في الكتابة الحديثة بـ "كتابة الفكرة"، وهذه الطريقة تُستخدم بين الشباب الآن في كتاباتهم للفكرة بطريقة عربية فعندما توضع علامة "القلب" مثلاً بين "أنا" و"أمى" فهذا يعنى فى النهاية "أنا أحب أمي" وغيرها كثير من أشكال كتابة الفكرة الحديثة بين الشباب وأهل الحرف.
ومن جانب آخر فقد تأثرت اللغة العربية باللغة المصرية القديمة فوجدنا في قاموس اللغة المصرية القديمة 66 لفظاً من المشترك اللفظي المصري القديم والعربي، وهي كلمات مشتركة في المعنى والنطق بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية.
وكذلك في معجم العامية المصرية كثير من الكلمات المصرية القديمة التي لازلنا نرددها حتى الآن ولا نعرف أنها من لغة الأجداد، من اللغة المصرية القديمة، وقد رسمت هذه الكلمات رسماً معبراً عن الفكرة وتشابهت تماماً في نطقها ومعناها مع ما هو متداول في عاميتنا المصرية، انظر معي إلى هذه الصور:
وهذه الكلمات المشتركة بين المصرية القديمة والعامية المصرية المتداولة على الألسنة كثيرة منها مثلاً كلمة "مَم" وتعني الأكل والطعام. و"إمبو" وتعني الشرب، وفي الصعيد يقولون "تِحّ "، و"تح" أتت من الكلمة المصرية القديمة "اتح" وتعني شد أو اسحب، وكلمة "كخة" بمعنى القذارة، وكلمة "تاتا تاتا" في الهيروغليفية امشِ، وكلمة (البُعبُع) المأخوذة من كلمة بوبو هي اسم لعفريت مصري مستخدم في تخويف الأطفال، وهناك مصطلحات شعبية مثل كلمة "شبشب" وأصلها سب سويب، ومعناها مقياس القدم، وتعني كلمة "مدمس" الفول المستوي في الفرن، ويعود أصلها لكلمة "متمس" الهيروغليفية، ومعناها إنضاج الفول بواسطة دفنه في التراب.
وفى موسم الشتاء يقول المصريون "يا مطرة رُخي رُخي"، وكلمة "رُخي" هيروغليفية معناها "انزل"، وهناك كلمات أخرى يتداولونها وهي في الأصل هيروغليفية، مثل كلمة "نُونُو" وتعني الوليد الصغير، و"مكحكح" وتعني "العجوز المشيب"، و"بَطَحَه" يعني ضربه في الرأس وأسال دمه.
ومن الكلمات التي يستخدمها المصريون حتى الآن، كلمة "طَنّش" التي تعني لم يستجب، و"ست" وتعني امرأة، و"خَمّه" وتعني خدعه، وكلمة "يَاما" وتعني كثير، وكلمة "مَقهور" ومعناها حزين، و"هَوسة" و"دَوشة" ومعناهما ضجيج وصوت عالٍ، و"كركر" تعني ضحك كثيرا، وكلمة "كاني وماني" وهي اللبن والعسل في المصرية القديمة.... وغير ذلك. فلغتنا الدارجة في مصر مزيج من العربية والمصرية القديمة، ذلك ما يؤكد أن العلاقة وطيدة بين العربية والمصرية القديمة.
المراجع:
- أشرف محمد فتحي، اللغة المصرية القديمة واللغة العربية مدخل معجمي. (بحث)
- عبد الحليم نور الدين، اللغة المصرية القديمة (العصر الوسيط) (مصر- ط9، سنة 2011م).
- سمير أديب، كلمات مصرية قديمة في لغتنا العربية. (بحث)
- الكندي، الولاة والقضاة.
- المقريزي، الخطط.
|