القاهرة 21 يونيو 2022 الساعة 10:14 ص
بقلم: حاتم عبد الهادي السيد
الريف صندوق الحكايات المدهش؛ ينافس حكايات ألف ليلة وليلة؛ وكليلة ودمنة؛ والشاطر حسن وست الحسن والجمال؛ ففي كل بيت حكاية؛ وفي كل شارع وناصية منزل حادثة وقعت؛ وخلف عيدان الذرة وأشجار الكافور والجازورين والتوت والنخيل؛ قرب الترعة نشاهد الجن والعفاريت والمردة؛ فهو مجتمع سحري بإمتياز؛ حيث يتربع الأجداد وكبار السن ليعصروا العقل ويطلقوا للخيال العنان ليقصوا الحكايات المسلية والمرعبة والمدهشة والمخيفة كذلك؛ ومع ذلك فهم يصدقونها؛ ويقسموا بكل الكتب السماوية أنهم شاهدوا تلك الأعاجيب والأساطير بأعينهم؛ بل حدثوها؛فهي تتلبس بعضهم بينما يتحصن آخرون بالقرآن الكريم؛ وبالرقي لتمنع عنهم الجان والسحر والحسد والأرواح الشريرة التي تقطن الدور الوسيعة في بيوت الريف الطينية العتيقة.
وفي روايته "البومة السوداء" يأخذنا الروائي المصري خليل الجيزاوي إلى عالم الريف المصري؛ وحكاياته الخيالية عن الجن والعفاريت؛ والأشباح التي تقطن حول أشجار الكافور والجزورين والنخيل؛ وفي الأماكن غير المأهولة قرب الترعة والمقابر وغير ذلك. وهي روايات تندرج تحت مسمى "أدب الريف"؛ أو رواية الخرافة الشعبية؛ التي تأتي علي لسان الأجداد والجدات العجائز؛ وتظل تلوكها الألسن؛ وتصدقها العقول في الريف المصري الذي اشتهر بطيبة أهله؛ فصدقوا الحكايات؛ بل ويقسم كثيرون بأنهم كلموا الجن؛ حيث الجد في الرواية رأيناه يتلبس الجني ويركبه؛ بل ويأمره لأخذه إلي سوق البلدة ليشتري له السكر والشاي وحاجيات المنزل؛ ويعود وهو يركبه في دقائق؛ أو ثوانٍ كذلك.
إنها حكايات الريف خلف الحقول وعيدان الذرة والليل والحمير والكلاب والقطط؛ والبومة التي تمثل لمن صادفها في الصباح نحسًا؛ فهم يتطيَّرون لرؤياها؛ ويغرمون بحكايات الجدة المثيرة.
ويقيني أن الجيزاوي -هنا- قد برع في واصفات سرده؛ ليصور لنا الريف بجماليةٍ أسلوبيةٍ فائقةٍ في الدهشة والجمال؛ وليدخلنا -كقراء- إلى قلب الأحداث؛ فنعيش مع أهل القرية أيامهم ؛ ونستمع إلي حكاياتهم وقصصهم التي حدثت لهم في النهار؛ وفي المساء؛ حيث تُقام مجالس السمر لتبدأ الحكايات تتوالى علي لسان العجائز؛ أو في صحن الدار؛ ويرجع الجميع بين خائفٍ ومُصدّقٍ؛ وبين من تصور له هلاوسه وهو عائد بين حقول الذرة أن جنيًا يتتبعه؛ أو أنه رأي حمارًا أوكلبًا على شكل جنيّ يحاول أن يعترض طريقه فيلوذ بالهرب؛ ليتتالي نبع الحكايات الأثيرة المرعبة والمشوقة والمثيرة للخوف كذلك؛ فالريفيون حكاءون بطبيعتهم وبيئتهم تساعدهم علي ذلك.
ولقد أجاد الجيزاوي تصوير حياة مجتمعات الريف المصرية التي لا تخلو من حكايات السحر والجنيات ؛ ومحبة ولادة الأولاد الذكور؛ وهذا ما رأيناه مع "سعدية" زوجة الجد الأولى؛ وأختها "نبيلة"؛ وهي التي تصطحب أختها إلي محطة القطار لتجلس بامتداد الشريط الممتد ليمر بجانبها القطار فينخلع قلبها وتصيبها "الخضة" وهذا أدعى لأن "تحبل" أي تحمل بصبي؛ ينير شمعة البيت ولقد تم ذلك بناء على وصفة المجربة "الخالة شربات"؛ لكن ذلك لم يُجد نفعًا؛ ولم تحمل سعدية؛ فقامت بعد ذلك بالذهاب إلي مقبرة كنيسة مسيحية مهجورة لتقف لتتمرغ في التراب فوق التبة العالية ثم تلقي نفسها لتتدحرج علي التل من صلاة الفجر وحتي المساء وهي تطلب من السماء أن يرزقها بالولد، مثلما رزقت مريم من قبل؛ وفي المرة الثالثة وجدناها بحسب وصفة الست " شربات الداية " تنام في حضن امرأة ميتة ولود؛ طوال الليل كي تنجب لكنها كادت أن تموت من الصقيع؛ وفي المرة الرابعة رأيناها تستحم بدم القتيل الذي تَشَرَّبَ بالرمال ثم تستحم وتتعطر وتدخل على زوجها ليواقعها لتحبل؛ لكن دون جدوى؛ وفي المرة الخامسة قامت بخلع ملابسها وغطست في مياه الترعة لمدة سبعة ليالٍ متتالية -ولا تخرج من الماء إلا بعد سماع آذان الشيخ حمزة عند صلاة الفجر؛ وكانت النصيحة هذه من جانب الخالة أم إدريس الحبشية التي نالت قسطًا من التعليم وقد شرحت لهم أن النهر يفيض بالعطاء والخصب والنماء، فالفيضان يحمل بركة أسرار جسد أوزوريس الذي قتلوه وقطعوا جسده إلى قطع صغيرة، وبعثروا هذه القطع في مياه نهر النيل في كل محافظات مصر المحروسة، وقضت زوجته وحبيبته إيزيس نصف عمرها في تجميع أجزاء جسده حتى نجحت أخيرًا، ما عدا العضو الذكري لم تجده ولا يزال ضائعًا في نهر النيل ختي الآن ؛ حيث أوززريس إله الخصوبة والمياه الحمراء يجيء مع الفيضان ليخصب التربة؛ فلربما تغمرها بركة النهر؛ وبركة الإله أوزوريس إله الخصوبة؛ الذي تلعب روحه مع كل موجة من موجات النيل" - كما تقول الرواية؛ والأسطورة الفرعونية الشهيرة.
إنها المثيولوجيا الشعبية تنتشر عبر الخرافة والمعتقدات لتمثل ركنًا من حياة الريف؛ حيث صراع الخير والشر؛ وهو صراع الإنسانية الكبرى منذ هبوط آدم وحواء من الجنة بفعل الحية التي أغوتهما؛ أو الشيطان ابليس الذي جعلهما يأكلان تفاحة الحياة التي نهاهما الرب عن أكلها؛ ليغضب المولى عليهما ويهبطا إلى الأرض؛ ليبدأ الصراع بين قابيل وهابيل؛ وتتوالي الحكايات وتمتد.
ويعالج الجيزاوي هنا العديد من القضايا الإجتماعية ويربط الفضاء الروائي بعالم الأساطير عبر مخيال مثيولوجي ممتد؛ لتتنوع مسارات السرد عبر تبادلية الأدوار للشخصيات التي تتابع عبر راوٍ عليم يربط هارموني السرد المتنامي منذ بداية الأحداث وحتى النهاية؛ كما لا يرسم الجيزاوي تفاصيل وصورة شخصياته بل رأينا نسيج السرد يحدد ملامح تلك الشخصيات ديناميكيًا؛ وتلك مهارة مبدع يتقن احكام نسيج البناء الروائي وسردياته المتتابعة .
ولكل قصة يرويها الراوي حبكة خاصة داخل بنائية الهارموني العام للرواية؛ ولكل حكاية بنائيتها المحددة؛ بل وشخصياتها التي تتوافق مع مستواها الاجتماعي ومكانتها.
كما تتعدد أزمنة السرد وكأنه يرسم طبوغرافيا للأمكنة عبر الزمن السردي الممتد للريف؛ في كل زمان ومكان وليس في هذا الزمان فقط. كما جسد لنا أدوار الخير والشر عن طريق العديد من المشاهد حيث أرادت "نبيلة" أخت "سعدية" -للأسف- أن تتزوج الحاج زوج أختها بعد وفاة أختها لتتمتع بماله الوافر؛ لكنه رفض؛ فهي امرأة لعوب لا تتناسب لتكون زوجة لصاحب العِمَّة الأزهرية؛ ووقاره وتدينه؛ فظلت تطارده كما تطارد إسرائيل الفلسطينيين؛ وهنا -عبر الإحالة- يشير الجيزاوي إلى قضية فلسطين وما تقوم به اسرائيل الشريرة من أعمال قذرة ضد الفلسطينيين الشرفاء؛ فلقد حاولت نبيلة مرارًا أن تخاتله وتنام معه؛ وغَلَّقَتِ عليهما الباب وهو نائم؛ لتصرخ ويضطر للزواج منها؛ لكن عناية المولى نجته من كيدها؛ فقد فقدت أختها الحبيبة؛ ولم تنل من زوجها الذي يستهويها؛ ولو بدافع الحب الذي تكلمت عنه؛ فهي امراة شريرة تقوم بأعمال السحر؛ ولا يستبعد أن تكون قد عملت عملًا من هذه الأعمال لأختها؛ ليعافها زوجها ويتزوج عليها ؛ وتكون هي العروسة المنتظرة.
كما يستفيد الجيزاوي من تقنيات السينما عبر: "الصور البصرية؛ وتقنية الفلاش باك والاسترجاعات المتوالية لأحداث سابقة؛ وهنا يشترك القارئ مع الكاتب عبر ارتجاعات الأحداث؛ وهو ما يجعلنا نوقن أن الرواية تصلح لأن يتم تحويلها إلي عمل درامي سينمائي؛ لأنه جسد المشاعر؛ ورسم صور شخصياته وتتابعاتها بعناية من خلال تنامي الحدث؛ وليس من خلال وصف مباشر للشخصيات كذلك.
إنها رواية الواقعية السحرية حيث تلعب اللغة هنا عامل السحر؛ ولقد أبدع في الوصف عبر لغة تُطِيعَهُ؛ وجمالياتٍ غاية في الروعة؛ كما أن الشخصيات تتنامى داخل الرواية وتظهر بشكل طبيعي دراماتيكي؛ تظهر وتختفي حسب دورها المرسوم لها؛ لتظل شخصية الجدة والراوي هما المهيمنتان طوال أحداث الرواية؛ وهي تقنية تتماس - كما أرى - مع عالم السرد ونسيجه في حكايات " ألف ليلة وليلة "؛ حيث شهرزاد تظل طوال الليل تحكي للملك "شهريار" الأحداث المثيرة؛ ولقد أبدع الجيزاوي بخبرته في التقاط ثيمات الحكى من خلال الوصف الساحر المثير والمدهش والذي يخلط فيه المثيولوجيا بالواقع؛ والأسطورة بالحقائق والمعتقدات الريفية؛ ولعلنا ندلل إلى جماليات الوصف البديع بقول الجدة وهي تصف فجيعة مأساتها الدرامية نتيجة وفاة أبنائها الثلاثة: (إبراهيم/ جمعة/ حميدو) - أخوال الراوي- بأوصاف تشتقها من الطبيعة؛ فتصفهم بأنهم:" كانوا خضرة الدار؛ وأنهم : "عصافير حياتها وزرعة الدنيا وبهجتها، لكنهم طاروا؛ بعيدًا بعيدًا في سماء الله الواسعة".
كما نجد سلطة الخرافة؛ والحكايات تتجسد في رأي الداية؛ والخالة والساحرة والشيخ وغيرهم؛ فهم لهم المشورة الكاملة وأقوالهم مُلزمة لتسيير رتم الحياة ؛ وديمومة العيش في القرية. وتنوالي مسروديات الجدة عن أبنائها الثلاثة الذين ماتوا حيث تمثل حكاياتهم أحداث الرواية كاملة ؛ فها هو الابن إبراهيم الذي يعشق صيد اليمام والعصافير يرونه معلقًا علي شواشي شجرة الكافور عند ترعة "أبو العزم" يجمع صغار اليمام ويذبحها؛ بينما أمه تنهره فلا يصح إمساك زغب الحمام الصغار وذبحهم؛ وهي فطرة ورحمة من قلب أمٍ رحيمة؛ حيث تكشف هذه المواقف الصغيرة عن قيم الرحمة والعطف والمحبة في الريف المصري الجميل.
كما تكثر بالرواية الأمثال الشعبية التي تدلل إلي قيم الريف المصري؛ وتخدم نسيج السرد؛ وتؤكد المعنى وتضفي على الحكايات والمواقف جِدِّيَةً للتَّصديق؛ ولتكشف عن جماليات القيم الريفية الجميلة التي تنبع من قيم الدين الإسلامي الحنيف أيضًا.
إنها قيم المثيولوجيا الجميلة؛ فها هي الساحرة الشريرة؛ أو الجارة؛ أو نبيلة لا تريد أن يتزوج ابراهيم ابن الحاج من عروسه فرأيناها تقوم بعملٍ سحريّ له؛ كي لا يستطيع أن ينام مع عروسه؛ وهذه الحكاية يشترك فيها أكثر من مشاهد واحد؛ فالسحر معروف في القرآن؛ إلا أن السحر هنا متشابك مع رؤية الجن ليلة الدخلة؛عبر القطة السوداء والمارد؛ وغير ذلك.
ويبرع خليل الجيزاوي -كعادته- في انفتاحه على الإجناسيات الأدبية كالقصة؛ ولقد رأيناه يقوم باستخدام تقنية القصة داخل الرواية؛ ويربط ذلك بالعنوان "البومة السوداء" والتي تتفكك مدلولاته السيموطيقية؛ فالعنوان مرتبط بكتاب تراثي؛ والقصة يرويها لنا داخل نسيج السرد الروائي كتدليل إلي وجود الحكايات الأسطورية عبر التاريخ؛ وبين الأمم والحضارات : فحكاية البومة السوداء المسحورة؛ وجدناها في ميثولوجيا التراث الأسطوري؛ فالبومة السوداء كانت في حقيقتها امراة جميلة جدًا تدعي سالمة؛ وكان لها طفل وحيد أنجبته بعد سنوات طويلة من الحرمان من نعمة الأمومة؛ فكان أنيسها وكل أمل لها في الحياة؛ وفي أحد الأيام كانت سالمة تجهز لتخرين الفريك والبرغل المحمص المصنوع من القمح؛ لزوم خزين الشتاء كعادة أهل الناس في الريف؛ ولقد احتاجت سالمة الغربال من جارتها؛ فارسلت ابنها لتحضره؛واوصت الطفل ألا يتأخر؛ لكن الولد رأى الأطفال يلعبون فذهب ليلعب معهم ونسي الغربال؛ ولما حان وقت الغروب ذهب للجارة وأتى بالغربال ورجع إلى أمه التي كانت تنتظره غاضبة؛ وعندما لمحته قادمًا أسرعت نحوه وضربته ضربًا شديدًا لم يتحمله؛ فمات الولد في الحال. ولما عرفت أن جسده سكت وخمد؛ بدأت تقلبه وهي تبكي وتصرخ؛ ثم هامت علي وجهها في الصحراء والجبال حتى مسها الشيطان؛ وسحرها بومة كبيرة؛ فكانت تصيح بأعلى صوتها طوال الليل : "سأتبع الذكر إلي أن يصبح راعيًا للبقر؛ وسأتبع البنيةَّ إلى أن تصبح صبية"، أي أنها ستلاحق الأطفال إلى أن يشبوا، وتخطفهم وتطير بهم عاليا في السماءً وتقتلهم بعيدا" .وتتوالي الحكايات والأساطير الشعبية التي تتسق مع الأساطير اليونانية والرومانية؛ بل ورعاة البقر الأمريكان؛ فتتناقلها الألسن والبيئات لتتشابك لتصبح تراثًا انسانيًا مشتركًا لدى كل الشعوب. لذا رأينا الجيزاوي يسرد لنا من كتب التراث أسطورة "أم الصبيان وسيدنا سليمان" وغيرها؛ كما يسرد علي لسان أهل القرية الكثير من الحكايات الشعبية كذلك.
ويهيم بنا "خليل الجيزاي" ليعرض لنا عبر المثيولوجيا وكتب التاريخ ويرفدها باستتباعات من القرآن الكريم في سورة الجن وغيرها للتشويق؛ وليخلط المثيولوجيا بالتاريخ بالرمز الحكائي بالموروث الديني والنصوص المقدسة؛ ليجعلنا نقف معه واجفين ؛وجلين، يحوطنا الخوف والرهبة ونحن نقرأ الحكايات عن هذه العوالم المخيفة والغريبة عن عالم الانس؛ لكنها موجودة في المخيال الشعبي؛ لدى الجماعة الشعبية.
المثيولوجيا الصوفية: حميدو والسيد البدوي:
تظل الجدة تحكي عن حميدو ابنها الثالث وعن مواقفه؛ وتتطرق الأحداث إلى الصوفية وشيوخ الطرق الصوفية والأقطاب الكبار: سيدي أحمد البدوي؛ وسيدنا أحمد الرفاعي؛ وسيدنا عبدالقادر الجيلاني وغيرهم. حيث تتعرض الرواية لعادات وتقاليد أهل الريف والقرى في زيارة الأضرحة والأولياء؛ واقامة الموالد الخاصة حيث تتجلي الأسرار وتنفتح الرؤي بالأنوار والإشراق؛ وتتوالي الكرامات عبر حلقات الذكر وتماوج الذاكرين.
وتتجلى لغة الرواية لتمزج بين الفصحي واللهجة الريفية؛ لتكتسب الرواية مصداقية من جهة؛ ولتبدو ثنائية الحدث أقرب إلي حياة الريف؛ فعندما يذكر السيد البدوي ينتقى لنا بعضًا من أشعاره؛ وحين يقترب من التراث يسرد لنا موقفًا وقصة؛ ويصوغ كل ذلك عبر هارموني تنتضم عقود حباته؛ أو كعقد تلتمع حباته مع النور الخارج من أقبيات الذكر وأضرحة السادة؛ والواقفين علي الأبواب والأعتاب: لكلٍ مطلب وحاجة؛ ودعاء يصل إلى البكاء والنشيج؛ أو النواح وتقبيل الأعتاب والأبواب؛ طلبًا للمد والبركة وقضاء الحاجة ؛وكلها معتقدات شعبية؛ وطقوسًا لا زالت تُمارس في الريف المصري؛ والصعيد القبلي؛ وفي أماكن أخرى علي امتداد محافظات مصر المختلفة.
ثم يباغتنا الجيزاوي فيتنقلنا -عبر المجاوزة وعبر الحكي - إلي عصر جمال عبدالناصر وأيام الجمهورية العربية المتحدة عبر حكايات الجدة؛ والتي تمثل الراوي العليم أو أنها ذاكرة التاريخ الذي يحوي حياة الشعب المصري وتاريخه المعاصر؛ فيأتي لنا بصورة مصر في عهد الرئيس عبدالناصر حيث العروبة والقومية العربية؛ والوحدة ؛والجيش العربي؛ كما تطرق لزيارة عبدالناصر للريف؛ وما كان من قوانين الاصلاح الزراعي والانتصار للفلاحين علي الاقطاعيين وغير ذلك. كما يتعرض لحرب الاستزاف واخلاء مدن القناة وضرب الطائرات الإسرائيلية لبورسعيد ومدن القناة. وينهي الجيزاوي روايته بانتصار الإرادة الالهية وانتقامها من الساحرة التي كانت سببًا في خراب كثير من البيوت من أهل القرية ؛ليجدوها مذبوحة في دارها؛ وحول جدران منزلها مئات الغربان المحنطة؛ وأعمال السحر والشعوذة السوداء . وتبدأ مثيولوجيا الحكاية لا تنته فعندما أرادوا دفن الساحرة وجدوا ثعبانًا عندما أرادوا الحفر كما وجدوا علي باب المقبرة التي يريدون رميها فيها ثعبانًا آخر يفح فحيحًا أصاب الجميع بالهلع؛ إلى أن قرأ الجد الحوقلات والآيات المحصنة؛ وكلم الثعبان ليهدأ ؛حتى يتم الدفن وليفعل بها بعد ذلك ما يريد؛ وهنا يسصط لشر وينتهي ويظل الخير باقيًا إلى الأبد.
وطوال مسيرة السرد يداور الجيزاوي ليؤكد لنا أننا في الريف حيث الحقول والمزارع؛ وخيال الظل في الحقل؛ واللمبة الجاز في الليل؛ وحياة البسطاء؛ والراكية وفناء المنزل؛ والطعام الريفي؛ ثم تموت الجدة وتنقطع معها الحكايات؛ ويظل الحفيد يحاول التذكر وتسجيل القصص التي تروي تاريخ حياة الريفيين عبر حقولهم ومعيشتهم ومعتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم وخرافاتهم؛ وحكاياتهم التي تتشابك فيها الحقيقة بالخيال؛ والفانتازيا بالسرد المثيولوجي والأسطوري؛ عبر التخييل الشعبي؛ والمخيال الأسطوري للواقعية السحرية ومعادلاتها الرامزة الأثيرة.
ويأتي الفصل الأخير ليكمل باقي الحكايات المثيولوجية لعنتر وعبد الملك وهم يعملون بالحراسة الليلية لتفوح من حولهم قصص كومة القمح التي تنخز أجسادهم لتمتد حكايات الريف المثيولوجية.
لقد ترك الجيزاوي النهاية مفتوحة للقارئ ليتشارك معه في صنعها ؛ فماذا سيفعل الجميع في الصندوق الذي يحكي تراث وتاريخ الأمم والشعوب والحضارات؟! ثم يعلن أمام الجميع والعالم أن الحكايات لن تنتهي من الريف؛ ولو انتهت من العالم وأصبحت تراثًا فيجب علي الجميع الحفاظ علي صندوق الحكايات الذي يضم الأفكار والقيم ؛ والتاريخ والتراث؛ والأحلام كذلك: "لو بطلنا نحلم نموت".
وبعد.. إن رواية "البومة السوداء" للكاتب المصري خليل الجيزاوي تكشف عن طبيعة المجتمعات الريفية البسيطة؛ وتقص حكايات الريف وأسراره؛ سكانه وعوالمه؛ معتقداته وتدينه وخرافاته؛ تصوفه وتدينه؛ طيبته الفطرية التي تختلف عن المدينة التي ضاعت فيها القيم - أو غابت لبعض الوقت؛ لتظل الحكايات شاهدة على حياة الفلاحين؛ وشاهدًا علي العصر والتاريخ؛ وواقع المجتمع المصري في ريف مصر الممتد عبر نهر النيل الخالد الجميل.
* خليل الجيزاوي؛ كاتب وروائي مصري؛ صدرت له العديد من المجموعات القصصية والروائية منها :
- يوميـات مـدرس البنـات ؛ أحلام عائشة؛ الألاضيش؛ مواقيت الصمت؛ أيام بغداد؛ سرة بني صالح؛ خالتي بهية؛
. كما صدرت له عدة مجموعات قصصية منها: نشيد الخلاص؛ أولاد الافاعي؛ حبل الوداد إلي جانب عدة كتب مختلفة؛ ولقد حازت روايته أيام بغداد جائزة إحسان عبد القدوس عام 2019م.
* البومة السوداء؛ رواية؛ إصدارات دائرة الثقافة؛ الشارقة؛ الغمارات العربية المتحدة؛ سلسلة ابداعات عربية؛ سبتمبر2021.
|