القاهرة 29 مارس 2022 الساعة 12:40 م
بقلم: حاتم عبد الهادي السيد
تبدو مجموعة "الحور العين تفصص البسلة" للدكتورة صفاء النجار أشبه بفنتازيا متخيلة تعكسها على مرآة الواقع، من أجل رسم الصورة والظل معًا، أو الذات وصورها عبر مرآة المجتمع والحياة والعالم..
وعبر إحالة العنوان "الحور العين تفصص البسلة" والتي تستدعى معها الجنة، حيث الحور العين والصفاء والحياة الرغيدة، كما أن دال البسلة وتقشيرها هو أمر دهاشي، يحيلنا الى براءة الطفولة، أو عالم البهجة الذي نلحظه في قصص الأطفال المسلية..
وعلى الرغم من الإحالات الكثيرة التى يمكن أن نشتغل عليها عبر العنوان السيمولوجي المثير، إلا أننا نلمح تغايرية للسرد، ومهارة في الانتقال البديع بين موضوعات القصص التى تمس شغاف القلب مع أحزان السارد/ الراوى العليم، الذي يستتبع التفصيل مع الإجمال، ويمازج الإطناب مع الإسهاب في تعادلية لغوية، تشي بمهارة المبدعة في اختيار لغة طازجة للحكاية، عبر تقنيات الحداثة وما بعدايتها الراهنة، مع تمسكها بنمطية القص وزهوه، وقدرته على الانتقال كفراشة بين جدران حدائق لغتها الباذخة، وتصويراتها الجميلة عبر الميثولوجيا، وإجادتها لاستخدام الواقعية السحرية لخلق معادل سير-ذاتي، عبر الذات المأزومة من خلال متواليتها القصصية، ولا أقول قصصها القصيرة أيضًا.
كما نلحظ بداية الإهداء الإحالي إلى زوجها الصحفي المعروف محمد الباز تقول: "أنا عند ظن عبدي بي"، وكما في الأثر، نقف نحن كقراء في مسافة متساوقة بين الذات الحائرة بالظن عبر قصصها، وكأنها أخفت الحسن لتتأهب لمجابهة أي مكر، أو تخالفات ظنية لرؤاها المستمرة..
وينقلنا الإهداء السيموطيقي عبر الدوال والمدلولات إلى التفسير النفسي للأدب، المؤلف، الراوي، الحَكَّاء، وغير ذلك من التأويلات التي توقفنا على أننا أمام كاتبة مجيدة، قلقة، صبورة، منكسرة، تود أن تحسن الظن، لكنها تخشى المكر السيء، وتخفى مع ذلك حسن الظن الذي تتغيَّاه وتأمل في وجوده، ورغم هذا القلق الوجودى بعيدًا عن الفيلسوف الألماني "نيتشه" ـ إلا أنها قد نجحت في قصتها الأميبا "، في إيهامنا بالسرد، عبر قصة الأميبا، والتي تحكي فيها قسرة الأيام على فتاة طموحة تستيقظ على جسدها الذهبي الجميل، كما تراه، والتي لم ينظر اليه أحد، رغم مرور ثماني سنوات بعد حصولها على ليسانس الآداب لنجدها قد أصبحت "عانسًا"، ومع زواج الفتاة وإنجابها -بعد ذلك- وجدناها لم ترتو ذاتيًا وجسديًا من زوجها، تقول القصة: "في مساءاتها كانت تسحق تحت كرشه الفحم، وتنبعج كقطعة عجين تمتد أطرافها تحت أصابع فران لا يحب صنعته" ( المجموعة ص9).
إنها -إذن- لا زالت تعاني، فتهرب من واقعها الى لغة الجسد، أو هي تَعْبرُ بالواقعية / واقعها، إلى غواية الجسد لتُحدث "التنفيس الانفعالى"، عبر ديمومة لغة الجسد، وأحاديثها معه"، والذي يليهيها -كما تقول القصة- عن أعباء المنزل والطفل، والزوج الذي لا يفهمها، ولا يلبي حاجات جسدها الطموح، فتظل تتماهى مع الجسد، وهي على طشت الغسيل، وتنتشي مع ذرات الماء الذى يصل الى أماكن حساسة لديها، لتشعرها بأنوثتها وسطوة جسدها الذى يتماوج كجوهرة ثمينة تحتاج الى يدِ نحات يصقلها، عندما تنتهى تغلق الشرفة.. تطفئ الإضاءة.. تخلع جلبابها.. تسترجع صورتها.. وحدها مع جسدها.. يتبادلان حديثًا سريًا حميمًا، يجعلها تتحمل باقى أيام الاسبوع" (المجموعة ص 12).
إنه حديث الجسد إذن، تنسى الطفل الرضيع، ولا تتذكره إلا حين الرضاعة، وتكره لقاء الزوج الذي لا يُقَدَّر مكنون اللؤل، وأصداف المحارات والأغوار العطشانة بجسدها الذي يتأوه، فكأنها تستعيض عن كل ذلك بحركة الماء العميقة الساخنة وبالتفاف فستانها، فتزدهي بالنشوة لتعطى جسدها روحًا ومكياجًا تراه يحمل صورة الحياة لديها. كما نلحظ تغايرية السرد وانتقالاته البديعة، عبر تنقلاته الوصفية من حديث الذات الى تجسيدها، ثم استحضارها، وكل ذلك تفعله الساردة عبر المفارقة ومهارة استخدام الضمائر، وكأنها تستعيد بالواقعية السحرية جماليات السرد باستكناه "خلف ظاهر النص"، الذي تكمن خلفه التفاصيل الكثيرة لقلقها وخيالها الجامع، مع سطوة جسدها الفاتن وطموحاته الأسيرة.
وفي قصتيها "في انتظار ما قد أتى، في انتظار من قد يأتي" نلحظ متتالية للقص، تكاد تكمل بعضها البعض، فالقضيتان تتحدثان عن ثورة 30 يونيو وما بعدها.
وتتالي مجموعتها لتعبر عن الواقعية الاجتماعية التي تأطر للواقع المصري، بل والواقع العربي الممتد. وأحسب أن الكاتبة تتماهى مع قصص الكًتَّاب الكبار: يحيى حقي، نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس في رصد الظواهر الاجتماعية، وفي رسم صورة للواقع في الريف والمدينة معًا، كما تؤطر ببراعة ورصد واقعي سحري للحياة المصرية القديمة والمعاصرة، وتستدعي أدق التفاصيل لموضوعات قصصها، دون أن يشعر القاريء بأي ملل، بل تماهيه وتجعله أسير قلمها المتدفق.
وتبدو لغة القص أقرب إلى الواقع والبساطة حينًا، لكنها لغة شاعرة -كما وصفها عباس العقاد- أو هي اللغة الثالثة التي تًطوع اللغة لإستراتيجية القص، فيعيش القاريء عبر جماليات التصوير في قلب الحدث، بل ويبدي التعاطف، ويسقط الدموع من أجل المواقف الإنسانية الكثيرة التي تقدمها هذه المجموعة الرائعة.
إن الحديث عن المجموعة يحتاج إلى الكثير من الدرس النقدي، لكنني ألمحت إلى بعض المواقف النفسية والإنسانية البسيطة، وإن كانت المجموعة تحفل بكثير من هذه الصور الرائعة كذلك.
وفي النهاية: يمكن القول بأن المبدعة صفاء النجار استطاعت إعادة إنتاجية التراث الإنساني الواقعي للمجتمع المصري، وعرجت إلى كثير من صور الحياة التي يصعب علينا تخيلها، وكأنها تستعيد الموروث القصصي لجيل العمالقة الكبار، وتضيف إليه أبعادًا زمكانية ممتدة، بل وترفده بأحداث واقعنا المُعاش عبر قصصها التي تتحدث عن الثورة المصرية الحالية وما نتج عنها من أحداث واسستتباعات أثرت -كذلك- في مسيرة الواقع الأدبي، وفي الحياة بصفة عامة.
تظل صفاء النجار مبدعة متمايزة، لا تتكلف الكتابة، بل تنقلها لنا عبر ذاتها التي تمثل النهر الدافق إلى قلوب القراء، وربما كان الصدق الفني هو أحد أسباب تمايزها عن كثير من مبدعات جيلها، لتنضم إلى مسيرة الإبداع المصري والعربي كأحد أهم كتاب القصة الحديثة المعاصرة.
--------------
* صفاء النجار، الحور العين تفصص البسلة، مجموعة قصصية، دار روافد للنشر،2017.
|