القاهرة 22 مارس 2022 الساعة 10:33 ص
بقلم: عيد عبد الحليم
لم تكن علاقة الناقد الراحل د. شاكر عبد الحميد بالثقافة -بشكل عام- وبالإبداع بشكل خاص، مجرد علاقة ناقد يقوم بتحليل ظاهرة ثقافية معينة، أو قضية فكرية ذات أبعاد شتى، أو نص إبداعي، أو عمل فني، بل كان في كل عمل نقدي يقوم به يؤسس لقيم جمالية جديدة تضيف للعمل الذي يناقشه، بل وتخلق من هذه المناقشة نصا نقديا مغايرا يوازي جماليا النص الإبداعي الذي يحلله بل يتفوق عليه في كثير من الأحيان.
وهذا -من وجهة نظري- لم يأت من فراغ، فهو ناقد موسوعي، يسبك النظريات النقدية بمختلف مدارسها بالنظريات الخاصة بفلسفة علم الجمال في سبيكة واحدة، ويضيف إلى كل ذلك نظريته الخاصة، في "علم نفس الأدب" تلك النظرية التي يعد هو والناقد الراحل د.مصري حنورة، أول من عمل بها في تحليل النصوص الإبداعية في العالم العربي.
وعبر ما يقرب من أربعين عاما راح يؤسس لذائقة نقدية جديدة ولعل كتابه "العملية الإبداعية في فن التصوير" من الكتب التي أسست لما عرف بعد ذلك ب"عصر الصورة" وتجلياته في الإبداع.
في هذا الكتاب والصادر عن سلسلة "عالم المعرفة" عام 1987، يتصدى للبحث عن إجابة لمجموعة من الأسئلة المهمة في الحالة الإبداعية من وجهة نظر "علم النفس"، مستخدما النظريات المفسرة للإبداع خاصة "نظرية التحليل النفسي" عند "فرويد" و"يونج" و"مدرسة الجشطلت" وغيرها، مقدما نقدا لكل منها، ومحاولا إيجاد رؤية جديدة لتحليل وقراءة النص الإبداعي.
• عصر الصورة:
وفي كتابه "عصر الصورة" أكد على أن الطفرة الإنسانية في المجالات الاجتماعية والسياسية والثقافية أصبحت الصورة تلعب دورا رئيسا فيها، مشيرا إلى أن "المجتمع الإنساني مجتمع تقوم الصور بالوساطة من خلاله، في الأنشطة الإنسانية كافة".
ونجد في هذا الكتاب "موسوعية الناقد" حيث يأخذنا في رحلة ثقافية علمية وأدبية وفنية وفلسفية، بداية من "أرسطو" مرورا بديكارت وفرويد ووالتر بنيامين وبيتهوفن وسلفادور دالي وبيكاسو وألبير كامي وتشيخوف ورامبو وإليوت وغيرهم وصولا لأدبا مصريين وعرب معاصرين، فنجده يقدم قراءات لنقد عنصر الصورة في بعض الأعمال السردية، ومنها رواية "دائما ما أدعو الموتى" لسعيد نوح، والمجموعة القصصية "مثل واحد آخر" لسيد الوكيل.
وهذا الكتاب -بشكل عام- رحلة في الثقافة الإنسانية بفنونها المختلفة المقروءة والمرئية، مستخلصا منها الأبعاد البصرية في تكوين الصورة الإبداعية، وأبعاد تكوينها، وأثرها على المتلقي.
• التربية الجمالية:
أما كتابه "التفضيل الجمالي.. دراسة في سيكولوجية التذوق الفني" فيعد أحد أهم المراجع العربية في "قضايا علم الجمال" ودور "الخبرة الجمالية" في قراءة النص الإبداعي والاقتراب من العمل الفني، والكتاب محاولة جادة للإلمام بالجهود السيكولوجية المختلفة التي حاولت وصف الجمال أو حاولت فهمه وتفسيره أو الاقتراب منه بطرائق متنوعة وخاصة في بعض تجلياته الفنية والبيئية، مشيرا إلى أن "المتلقي الذي تتوفر لديه خلفية في فهم المعلومات الجمالية هو القادر فقط على تذوق الأعمال الفنية" مؤكدا من خلاله على أن "التفضيل الجمالي" هو رؤية للمستقبل. من خلال اعتماد "التفضيل الجمالي" على "التفهم المعرفي" وذلك في مقابل المنحى التحليلي النفسي وكذلك المنحى السيكوفيزيقي أو منحى الجماليات التجريبية.
ويرى ضرورة ما أسماه "التربية الجمالية" والتي يمكن من خلالها تكوين اتجاه جمالي لدى الأفراد.
يقول د. شاكر عبد الحميد: "التربية الجمالية ينبغي أن تقوم على أساس التفكير المنطقي والإبداعي، وليس على أساس واحد منهما فقط دون الآخر، فمن المهم معرفة الأسس والقواعد والمكونات الخاصة بأي عمل فني، ثم من المهم أيضا ن الاتجاه الخيالي المتحرر من النمط والقوالب خلال التذوق لهذا العمل أو التفضيل الجمالي له" (التفضيل الجمالي، ص412).
ويضع كذلك "روشتة علاج" لكثير من الأمراض الاجتماعية التي استشرت في الفترة الماضية، من خلال تأكيده على ضرورة دراسة الفن وتهيئة جمهور المتلقين له، بداية من مراحل التنشئة الأولى في الطفولة، وعن ذلك يقول عبد الحميد: "نعتقد أن القصص واللوحات والمقطوعات الموسيقية والأعمال التشكيلية التي يستمتع بها الطفل خلال مراحل مبكرة من عمره تظل نشطة معه، داخل عقله ووجدانه، وخلال مراحل عدة تالية من عمره، إنها تظل نشطة -فيما نعتقد- في تلك المنطقة الخاصة من العقل والتي تسمى ما قبل الشعور، وهي المنطقة التي توجد فيما بين الشعور واللاشعور، وهي ليست منطقة وعي كامل أو لا وعي كامل. إنها منطقة أحلام اليقظة والخيال، وهي المنطقة التي يعتمد عليها الأدباء في الكتابة والفنانون في الرسم، والتصوير، والتأليف الموسيقي". (التفضيل الجمالي، ص416).
كما أن تكوين ذهنية الطفل جماليا تتم -أيضا- من خلال تكوين علاقة ممتعة، وسارة بين الأطفال والأعمال الجمالية والفنية منذ وقت مبكر.
ومن الأشياء المهمة التي كان يؤكد عليه دائما د.شاكر عبد الحميد فكرة "الخبرة الجمالية" والتي تبدأ من الأسرة، ثم المدرسة، فعبر المراحل التعليمية المختلفة ينبغي أن تتحرك العمليات التدريسية عامة، والجمالية خاصة في ضوء نمو المخ والارتقاء المعرفي والوجداني من العياني المجسد إلى العقل المجرد، ومن القريب المألوف إلى البعيد غير المألوف"، ص425.
وفي كتابه "الغرابة.. المفهوم وتجلياته في الأدب" يأخذنا إلى منطقة خاصة في جوهر الإبداع الإنساني وفي المكونات النفسية له، حيث يقول: "يكمن جوهر الغرابة في الحياة، وفي الفن، وفي الأدب في تلك العلاقة التي توحد بين الموت والحياة، وكذلك في آلية التكرار، في انتفاء الألفة، وعياب الشعور بالأمن وحضور الخوف في الحياة".
ويتطرق -من خلال هذا المنظور- إلى أعمال "كافكا" و"فرجينيا وولف" و"مارسيل بروست" وغيرهم من المبدعين المأزومين نفسيا، والذين عانوا كثيرا من الخوف والقلق من الآخر، وهذا مايشير إليه "فرويد" قائلا: "يمتلك سارد تلك الحرية الإبداعية التي لا يمتلكها كثيرون في الحياة العادية، إنه يمتلك حرية الخيال".
ويؤكد د. شاكر على أن الأدب العجائبي يتعلق بنوع من القلق الوجودي، وكذلك الشعور العام بعدم الراحة.
لقد نشأ الأدب العجائبي في ضوء ما يرى "مونليون" نتيجة للشك وفقدان اليقين الذي أحدث شعورا بالخوف، وهما معا، فقدان اليقين والخوف يرتبطان أيضا بالظروف الاجتماعية والتاريخية وما يترتب عليها كلها من نتائج وجد الأدب العجائبي"، ص82.
ويرى أن "الذاكرة طيفية الطابع والخيال طيفي الطابع وكذلك الانفعالات والمخاوف والصور والرؤى كلها أطياف أو أشباح لخبرات أو تصورات يحاول الأدباء ابتعاثها أو تخيلها أو تذكرها أو معالجتها وتجسيدها في أعمالهم بطرائق شتى"، ص80.
ويتعرض د. شاكر لبعض كتابات النقاد العرب حول "الغرابة في الأدب" ومنها دراسة عبد الفتاح كليطو "الأدب والغرابة" والتي تعامل فيها مع المفهوم العام للغرابة، ولم يرد ذكر لديه فيها لكل ما يتعلق بجوهر الغرابة من الناحية النفسية.
• سمات نقدية
وقد تميزت كتابات وشخصية شاكر عبد الحميد النقدية بعدة سمات:
أولها: المنهجية في التحليل والكتابة، وهنا تكمن روح الأكاديمي المتخصص، الواعي بآليات الكتابة النقدية المبنية على تراتبات بحثية، وفق خطة منهجية واضحة ومحددة.
ثانيا: الموسوعية، وهي سمة أصيلة في كل ما كتبه، حيث تنوع المصادر والروافد العلمية، فقد كان ملما بالنظريات الفلسفية ونظريات علم النفس ومدارسه المختلفة، والنظريات الأدبية القديمة والحديثة، والمعرفة الجيدة بالمنجز الإبداعي العالمي عبر التاريخ قديمه وحديثه، والمتابعة لكل ما يصدر من الإبداع العربي، والمعرفة التامة بالتراث العربي.
ثالثا: المتابعة الجيدة للحركة الثقافية العربية، ولحركة الإبداع العربي، فقد كان قارئا لكل ما يصدر من شعر ورواية وقصص، كذلك كان مواظبا على حضور المعارض التشكيلية والكتابة عنها.
رابعا: الجمع ما بين النظرية والتطبيق، فكل كتبه نجدها تجمع مابين العمق التنظيري للأفكار التي يطرحها من خلال مهاد نظري متسلسل ومرتب يتميز بالعمق العلمي الممنهج، ثم يطبق ذلك على مجموعة من النصوص من الإبداع العالمي أو الإبداع العربي.
خامسا: التنوع النقدي، فله دراسات متنوعة في النقد الأدبي والنقد التشكيلي والنقد المسرحي، بل إن كثيرا من كتبه تجمع بين نقد الفنون المختلفة.
سادسا: تواضع العلماء، وهي سمة نلمحها في الحقيقيين دائما، لذا كان شاكر عبد الحميد قريبا من كل المبدعين، مشجعا لكل جديد، ومشاركا في مبادرات ثقافية وأدبية مستقلة يؤسسها مبدعون من أجيال مختلفة، وهذا ما لمسته عن قرب من خلال "منتدى الشعر المصري" ودعمه للفكرة ومشاركته في تأسيس جائزة باسم الشاعر الراحل "حلمي سالم".
كذلك لم يتأخر عن تلبية دعوة لمناقشة أي أديب جديد يدعوه لمناقشة كتاب صدر لهذا الأديب.
هذه صفات اجتمعت في شخصية ثقافية وإنسانية قلما تتكرر اسمها "شاكر عبد الحميد".
|