القاهرة 01 مارس 2022 الساعة 12:11 م
بقلم: محمَّد فاضل المِشلَب
روايتان في رواية واحدة، تبدو فكرة بديهية، سهلة المنال عند أيّ روائي، لكن عليّ نصّار، الرّوائي اللبناني، والموسيقي أراد أن يكتب هذه المرّة بالحرف وبأدوات السّرد، بروايته الثانية له تحت عنوان: (سيرة مسلم في حانة آرتين، دار النهضة العربية، بيروت). إذ يذهبُ نصّار لتقنية هذه بتقسيم فكرته الروائية على جيلين، جيل عاش الحرب الأهلية في بيروت خلال سبعينيات القرن الماضي، عاشها، وشارك بها، رصاصا ودماءً، وجيل آخر جديد، نتاج الجيل الأول، يعيشُ ببيروت الجديدة بحربٍ من زاوية أخرى، بتمزق سياسي، واجتماعي، وَذاتيَّ.
المرويّة الأساس في (سيرة مسلم في حانة آرتين)، هي مروية الابن (السّارد) العائد من برلين، حيث يدرسُ السيسولوجيا، ويُحضِّرُ رسالته في الماجستير عن "الإدمان" ومتعاطيها، يعودُ لبلده لبنان، كي ينتقي نماذجه من المدمنين، وهذا ما سيدخلهُ حانة آرتين، ويخترقُ "الشلّة"، أو بمعنى آخر الجيل اللبناني القديم الذي تقاسمته الإيديولوجيات، والأفكار الكبرى المتصارعة مع بعضها، وانتهى الحال بالجيل هذا انتهاءً مُربكاً غمائميَّاً، يقعُ بين طرفي الفشل والانكسار.
وهنا تبدأ فكرة الروايتين، عبر عثور الابن السّارد على مخطوط رواية، في مكتب أبيه المتنفّذ والثري، والمالك لوسائل الإعلام المتعددة، تحوي على سيرة شخص اسمه (مسلم) [سيكتشفُ السّارد الابن لاحقا أنّها سيرة والده]، من شيعة لبنان المهووس بالدراسة الدينية، ومقاطع الجنس في الأمكنة السرية للسينمات غير المرخَّصة، تضطرهُ ظروف الحرب الأهلية في سبعينيات القرن العشرين إلى الانتقال لبيروت العاصمة، حيث يتابع شغفه بالمتناقضَين، الدراسة الدينية والتفكير بالذهاب للنجف في العراق، والمجلات الإباحية والمقاطع التي تعرضها زوايا السينمات المظلمة، إلى أن تشاء الصدف ويتعرّف (مسلم) على (موسى هامان) المليونير المسيحي بالأفكار العلمانية، الودود المحبّ للشباب الراغب بالتعلّم، فيتقرّبُ (مسلم) منه، وبالوقت نفسه يقرّبه (موسى) إليه، ويهتمُّ به ويبتدئ ببثّ أفكاره، ويجعلهُ يختلطُ برفقائه من المثقفين، الذين يلتقيهم في قصره، لتتنازع (مسلم) الأهواء، والرؤى يمنيها ويسارها، وبدأ بالتخلّي عن كينونته الدينية، ورغبة أبيه بالسفر للدراسة في حوزة النجف، حتى استحال مُقرّباً من (موسى هامان)، ليقترنُ بابنته (نيكول)؛ كي يرثَ كلّ أعمال والد زوجته، ويديرها بعقليته التجارية، أمّا قناعته السياسية، فكانت تتبدل وفق الموضة، ووفق الربح الذي يطمع به، أو كما تذكر زوجته لابنهما عنه: (يُبدّل [مسلم] مبادئه وفقاً للظروف غريزيا، كالحرباء، فيتأقلم مع الحاليّ ويتماهى مع السائد./ ص 189)، هكذا تبدو سيرة (مسلم) بإيجاز، عاش تحوّلات، وشُغِفَ بانحرافات، وعشق مبادئ، وتمثّل قيماً، فكان مجموعة متعددة من شخوصٍ مُتنافرة في جسدٍ واحد.
أمّا الرواية الثانية في العمل، فهي المُتعلّقة بالنصف المُتبقّي من عنوان العمل، أعني (حانة آرتين) العتيقة في مدينة بيروت، وتحديدا مرتاديها (الطاولييون): وهم كل من (زينب، حسن الهرش، عيسى سعيد)، رفقاء (مسلم) السابقين.
(زينب) مُربية الابن السّارد، وعرّابته، شيوعية سابقة، وهي محور الأصدقاء القدامى، لثقافتها وجمالها، وعنفوانها الأنثوي، الذي جعلهم يتساقطون أمام حسنها واحدا تلو الآخر، فهي فتاة قروية، اتسمت بالجرأة، وعدم الانصياع لنواميس مجتمعها الذكوري، المُنغلق على نفسه: (بسبب افتتان معظم رجال القرية بها، ثم تسابقهم على تكرار التقدم لطلب يدها، وبسبب تكرار رفضها لكل طالبي الزواج ومواظبتها على اجتماعات الشيوعيين.. كادت زينب أن تُقتل بجريمة شرف !./ ص 157)، وما هذه سوى ردّة فعل لجموحها ورغبتها بالتعلّم، ودراسة الصحافة، والعيش خارج أطر القرية المُعتادة، فلفّقت ذكورة المجتمع تلك التهمة، والتي عجّلت بهروبها من القرية، صوب بيروت، للاستقرار مع (نيكول) ابنة (موسى هامان).
كـذلك (حسن الهرش)، الشاب الميلشياوي في السبعينيات، ورفيق (مسلم)، الذي عرّفه بـ(زينب) في بيت (موسى هامان)، (الهرش) الأكثر جدارة بفهمِ الماركسية، الذي اغتنم فرصة الحرب الأهلية، ليتزعّم ميلشيا مُسلحة، تأخذُ وقتما تريد من المكاسب، وتهبُ وقتما تشاء. فضلاً عن ذلك كان متعلّماً بشكل عميق، وطرح نفسه شاعراً له صوته المائز، وكاريزماه التي لم تشوّها سخام الأسلحة: (لقد كان مصدرَ إعجابٍ للجميع، كل جيله من الشباب كانوا يقلدونه في كل شيء. في كتابة الشعر. في طريقة الكلام والمزاح وحتى في ملبسه وتسريحة شَعره./ ص 168).
لكن كلّ تلك الأبهة كانت تنهار أمام سحر (زينب) كان أضعف من أيِّ كائن، حيث تتهاوى شخصيته القيادية، وعنفوانه الفحولي في غمرة الأنوثة الفاتنة: (المضحك، المؤسف، أن الهرش كان يتحوّل إلى طفل ويفقد كل هيبته وهالته حين يتكلم مع زينب أو عنها. كان واضحا أنها هزيمته الكبرى./ ص 232)، هزيمته العاطفية، تتساوقُ وخروجه خالي الوفاض، من حرب بلده الأهلية، بلا مكسب كبير، وما حققهُ للجهات السياسية، التي عمل لديها، حين انفضّت من حوله، واتجهتْ لبوصلة الاعمار للمدينة الخراب، المدينة التي خرَّبوها هم أنفسهم، فنفضوا ملابس العسكر عنهم؛ ليلبسوا ملابس رجالات الأعمال، لإحياء بيروت أو انعاش جسدها، لكن من خلال صفقات مشبوهة، مُزيّنة بالمال الأجنبي، الذي كان أحد شرايين دفع المجتمع للاقتتال وتمزيق نسيجه المتنوّع، فانتهى المآل بـ(الهرش) سكّيراً في حانة آرتين، راضياً بالابتعاد عن رفقاء الأمس، حكّام اليوم، فيقولُ مخاطباً السّارد الابن: (أليس أشرف لي أن أسكر هنا، في حانة آرتين، من أن أكون مثقلا بآثام تدمير لبنان وتبديد ثرواته وطاقاته؟! وأن يكون في رقبتي آلاف الضحايا والمعاقين والمنكوبين والمشردين./ ص 203).
أما شخصية (عيسى سعيد) التشكيلي الموهوب، هو كذلك اقترف إثم الانتماء، وانغمرت ريشته بالأيديولوجيا بدل الأصباغ، وما فاقَ من رقدته تلك، حتى وجد نفسَه أحد التابعين لـ(حسن الهرش)، ضعيف الشخصية، راضيا بالمهانات من مُختلف المرتادين للحانة؛ بسبب فشل الحركة السياسية اليسارية التي آمن بمبادئها، وناضل من أجلها، لينتهي سكيرا يقتني ملابسه من محلات الألبسة المستعملة، وكأنها توازي شخصيته أيام شبابه، فكما استعملتهُ قوى سياسية وتركته بعدما انتهت لعبة الحرب، ها هو يستعملُ ما يتركه الناس من ملابس بُعيد استعمالها، يقولُ السّارد الابن: (كان مشهدا غير مألوف، إنما الأكثر غرابة، هو ما صادفناه في منتصف الشارع، قرب فرن الحطب تحديداً، حيث تقع بالة أبو عرب للألبسة الأوربية المستعملة. هناك، من باب ذلك المحل، خرج رجل مُحمَّلٌ بعدة أكياس سوداء تكاد تفوق حجمه. وهناك، أمام أعيننا، تعثر بالرصيف وانفرطت أكياسه جانب سيارتنا مباشرة؛ وكانت المفاجأة .......... عيسى سعيد !./ ص 217).
بعد انتهاء سيرة (مسلم) وبقية رفقائه، لم تبق أمام القارئ إلا شخصية الابن السّارد الذي يظلُ وراء الطاوليين، بوصفهم عيّنة لموضوع رسالته في الماجستير، ومع اقترابه منهم ومن ماضيهم، وحاضرهم، وكشف مأساتهم، وفوضوية ممارساتهم، ونكران ما آمنوا به، تبتدئُ وجوديته بالتكشّف أمام ناظريه، وما هي الفئة التي انسل منها ولداً يمثّلُ جيلاً جديداً مُتعلماً، لا يئنُّ، إذ يريدُ تحقيق أحلامه دون وصاية أبناء الحرب الأهلية، الذين لم يشفوا بعد، والذين لا يتيحون - بمعنى آخر - لانتهاء زمنهم القمطرير، بعد انكشاف حقيقة مُرَّة ثانية، باكتشاف علاقة والدتيه (البيولوجية: نيكول، ومربّيته: زينب) الآثمة، لتنتهي خطواته في "بيروته" وثكناتها وجلابيبها وظلالها، بعد أن بدأها باكتشاف سيرة أبيه المُتثلّمة في سفر الجنس، والتدين، والمتاجرة، مُقيما في برلين، بوصفها عتبةً لمنفى دائم: (هنا في برلين، حيث كان من المفترض أن أناقش أطروحتي عن الإدمان، وجدتُ نفسي لاعباً داخل ما أكتب! تائهاً في عوالم السِكر التي تداخلت وَتَاختْ مع آثار الأديان والأيديولوجيات في رأسي... فحجزتُ لي مكاناً بجانب شلة الطاولة/ ص 302)، فكما أراد الجيل الجديد المتعلّم، الذي حظي بفرص أفضل من جيل الحرب والموت، النهوض، كانت الخيبة نصيبه الأكبر، والصدمة رفيقته الحميمة، ولم تنفع مسارات السّارد في دراساته العليا، والتي فتحت له أبواب قراءة مجتمع المدمنين، والبحث في خباياهم المثيرة، بل جذبته الصدمة من ذلك الجيل، بموتيته، وإدمانه، وفوضويته، وشذوذه، إلى الوقوع في حانة الإدمان، وكأن الفشل الباهر قد كُتب على الجيلين وسيرتهما، عبر سيرة مسلم وابنه.
|