القاهرة 11 مايو 2021 الساعة 01:54 م
حاورها: صلاح صيام
رمضان شهر يحمل بين طياته عدة معان دينية وروحية، ويأتينا كل عام فى وقت مختلف. ويصوم العامة نهاره ويحاولون إحياء ليله بقدر المستطاع، فماذا عن المبدعين وماذا يمثل لهم هذا الضيف الكريم؟! هل هو فرصة للراحة والاستجمام والبعد عن العالم المادي، والغوص في الروحانيات والانكفاء على الذات، أم أنه ملهم للإبداع على اعتبار أن كثرة الطعام لا تعطي مجالا للعمل الذهني؟ أم أنه مزيج من العمل الإبداعي، والنهل من بركته..
واليوم موعدنا مع المبدعة السودانية "مناجاة الطيب" التي قالت:
عندما يقال إن شهر رمضان شهر متفرد يحمل ملامحه الثابتة، فتلك مقولة لا تحتمل غير التأكيد عليها فقد جاء الله بذلك في محكم تنزيله وحث على صيامه والتقرب به إليه في عمل الطاعات وممارسة حسن الخلق وتهذيب السلوك لذا نجده فرصة لاختبار إيماننا.. وهل مازلنا على جادة الطريق أم خدعتنا الدنيا وانحرفت بنا المسالك والدروب؟
رمضان شهر فرح موعود وحسنات تحصد بلا حساب، وعند الله الجزاء الأكبر الذي وعدنا به فهو له وهو يجزي به، يتفق المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها على عباداته؛ويختلفون في طقوسه فلكل شعب بصمة خاصة به لقضاء ساعات يومه.. وأنا أختص تلك المساحة لرسم صورة لضيفنا الكريم في السودان وأنه لأمر قد يبدو سهلا سلسا.. ولكن تصعبه اختلاف الثقافات به وامتداد سكانه على أراض شاسعة أشبه بالدويلات ولكل منها أسلوب حياة مختلف عن الأخرى، ومع ذلك تجد نقاط الاتفاق جلية وواضحة في أساسيات الحياة وحتى أرسم صورة متكاملة تعكس كيف يقضي السودانيون شهر رمضان فما علي إلا أن أحكي عما يحدث في مدينة واحدة تعتبر بوتقة اجتمعت بها كل القبائل وتجانسوا بها وعاشوا على قلب رجل واحد كأنهم أخوة من رحم واحدة، فللمدينة سحرها وجاذبيتها وقد أسعدني الحظ أن أولد وأترعرع بها..
إنها مدينة "أم درمان" تلكم المدينة التي تجثو على الشاطيء الغربي للنيل ضمت بداخلها كل سبل الحياة والاتصال فهي العاصمة الوطنية أو السودان المصغر، تعيش أم درمان صخب الحياة والتفاعل بكل مادياتها وتجدني الآن اجتر ذاكرتي لأيام خلت كنت وقتها طفلة أترقب قدوم الاحتفالات باختلافها لما تحمله لي أحاسيس حلوة استمتع بلذتها، وليس أحب إلي من قدوم شهر رمضان الذي ينتظره الجميع من (الحول للحول) أي العام والذي كنا نراه طويلا جدا على غير هذه الايام.. لا أدري إن كان هذا الإحساس يوافق علم التوقيت أم يتجاوزه لسرعة وتدافع الأحداث.. المهم وقبل إطلالة الشهر الكريم بشهرين تنطلق الاستعدادات لاستقباله وهو عمل من اختصاص المرأة وحدها ويتمثل في إعداد مشروب رمضان الرئيس وهو الأبري وهو نوعان مختلفان في الشكل والمذاق رغم أن المكون الرئيس لهما واحد وهو الذرة، فالأبري الأحمر ويطلق عليه اسم (الحلومر) هو سيد المشاريب الرمضانية، ثم يأتي الأبري الأبيض في الدرجة الثانية له ثم تمتد التجهيزات لإعداد الرقاق وهو قريب لهما في الشكل إلا أنه يصنع من دقيق القمح وعند التقديم يضاف إليه الحليب وهو وجبة خاصة بالسحور..
وأيضا تهتم النساء بصحن البهارات بكميات كبيرة وأهمها "الويكة" في أحد عناصر الطبق الرئيس لإفطار رمضان يصحبها عنصر آخر هو اللحم المجفف والذي يحضر في المنزل أيضا ليصنع منه طبيخ التقلية الشهير وأذا أضيف إليه الروب أو اللبن الزبادي صار اسمه ( نعيمية) يسكب على العصيدة وهي عبارة عن طحين الذرة المحمض بدرجة تخمير مناسبة يترك على النار مع التحريك حتى يأخذ قواما متماسكا يصب في قوالب ويقدم على أطباق خاصة به تعرف بصحن العصيدة، وأيضا من الأطباق التي تظهر مع شهر رمضان طبق البليلة وهي تصنع من عدة أصناف ولكن أكثرها ارتباطا بالشهر بليلة العدسية أو اللوبة الأحمر وأيضا الكبكبي طبعا بالإضافة لأصناف أخرى كثيرة..
تعتبر هذه الأشياء وفد مقدمة لموائد رمضان العامرة بالخير والبركة.. ويبدأ العد التنازلي وكل يوم يحمل إنجازا قد تم خاصة ما تعده وسائل الإعلام المقتصرة على الإذاعة والتلفزيون القومي الذي يبدأ إرساله عند الخامسة مساء وينتهي عند منتصف الليل ومع ذلك تجده زاخرا بالبرامج المتعددة والمنوعات، وللإذاعة النصيب الاكبر من المتابعة لأنها الأوسع انتشارا فإجهزة الراديو كانت متاحة أكثر من التلفزيون محدود مساحة البث نادر التواجد في جميع المنازل.
في يوم تحري الرؤية يجتمع الأهل حول الراديو لسماع ما يسفر به اجتماع هيئة علماء السودان من خبر يؤكد صيام الغد أو ان يكون مكملا لشهر شعبان.. والغريب في الأمر أن يفرق ذاك اليوم مع الناس فكأنهم يريدون لشعبان أن يكتمل فهناك بعض الاستعدادات لم تنجز فتأتي عبارة (خلاص ثبتوه) حاسمة ثم تعلو الضحكات والتعليقات يسخرون بها من أنفسهم.. فماذا يمكن أن ينجز ما لم ينجز طيلة أحد عشر شهرا؟! ثم تنطلق التهاني ويتدافع الرجال والنساء للمساجد لأداء صلاة التراويح.. وتهم النساء بإعداد كمية من الطعام بحيث تكون مقنعة لبقائهم صائمين طيلة ساعات النهار.. أما نحن الصغار فقد كان لنا دور عظيم في المشاركة إذ يجتمع كل أطفال الحي ويجمعون حجارة يصنعون بها مربعا كبيرا متجها نحو قبلة الصلاة به مساحة في المقدمة صممت على شكل المسجد لوضع سجادة الأمام. ثم تفرش بالرمل وترش بالماء وقبل موعد الإفطار بنصف ساعة يسارعون بإخراج المفارش وهو ما يعرف لدينا بالبرش فيبسطونه في المساحة التي تم إعدادها في الشارع ليتشارك رجال الجيران الإفطار سويا كل يخرج حاملا صينية طعامه وما زالت هذه العادة الرمضانية قائمة حتى اليوم على الأغلب الأعم..
وتمر الأيام ويشارف الضيف البركة على الرحيل وتنشط الحركة ويستيقظ النائمون فالعيد على الأبواب وهناك الكثير من التجهيزات التي تنتظر من كعك وهو ما يعرف بخبيز العيد بأشكاله المتعددة، وتجديد للمنازل وشراء المفارش والملابس والحلوى والتمر والتي تحتاج لزيارات للأسواق لشرائها. وأن أنسى لا أنسى ليلة العيد وأنا أحتضن فستاني وحذائي الجديدين وأنام وأحلم بصباح العيد، وفي تلك الليلة يتكرر نفس المشهد الناس متحلقون حول الراديو في انتظار الخبر اليقين ونفس الأمنية التي ودع بها شهر شعبان يتمنون أن تكتمل عدة رمضان ثلاثون يوما لإنجاز ما لم يستطيعون إنجازه وأنه لعمري لو منحوا عاما إضافيا ما اقتنعوا بأنهم قد فعلوا ما أراده...إنه الإنسان.
رمضان شهر التأمل والإبداع والتفكر في خلق الله والانطلاق بالنفس لأبعد مساحات الكون ثم العودة والإذعان بالعبودية لله الواحد الأحد وقد تختلف تلك الرحلة الروحانية من شخص لآخر كل يصورها بمنظار اهتماماته ويصيغها حسبما تجود به إليه قريحته ولكن هناك من اختصهم الله بموهبة تحويل إلهامه لنص ممتنع عند العامة وأحسب نفسي ممن اختصهم الله ولكني مازلت أنتظر الذروة لأخرج كل ما هو كامن في دواخلي وهناك الكثير المرجو من تلك اللحظة أسال الله أن يعينني ويسخر لي من يكون عونا لأملأ الساحة الأدبية.. وليس على الله ببعيد وقد تكون هذه واحدة من دعواتي في شهر وعدنا الله فيه بالاستجابة أو تأجيلها ليوم نحن أكثر ما نكون فيه حاجة لها.. الحديث عن شهر رمضان حديث ذو أدبيات خاصة أقرب ما تكون بالاتزان في الفكرة والطرح فالساعة ساعة عمق، وإذا قدر لعمل أدبي أن يولد في هذا الشهر الحرام فلا تجده إلا وأنه يحمل من الإيمانيات ما يحمل إلا من حرم حلاوتها وتمرد على الفطرة المستقاة عن دين الإسلام، وهو فرصة مكفولة لإخراج إبداع رصين يصور إعجاز الله في خلق كونه الواسع الذي يضم ما علمنا وما لم نعلم، وما أراه إلا فرصة يجب أن تقتنص ومناسبة حري بنا الاستفادة منها للتقرب من الله أكثر ليرضى عنا ويسخرنا لكل خير وفائدة لغيرنا وكل عام وكل الأمة الإسلامية بخير وبعيدة عن الذبد الذي يذهب جفاء.. وأن يبقى ما ينفع الناس ويرتقي بهم الي عوالم الإنسانية والسمو.