القاهرة 11 مايو 2021 الساعة 01:35 م
بقلم: عاطف محمد عبد المجيد
هناك أدباء وشعراء يموت ذِكْرهم بموتهم الإكلينيكيّ، فيما يظل آخرون خالدين بأعمالهم الفذة، ما دامت الحياة على وجه الأرض، بل، أحيانًا، يتوهجون كثيرًا بعد رحيلهم، لما في أعمالهم من ثراء وفرادة. من هذه الظواهر الفريدة، خاصة في الشعر العربي المعاصر، حالة الشاعر عبد الحميد الديب الذي عاش حياة بائسة كلها ضنك وشقاء.
لقد عاش الديب حياته محرومًا وبائسًا، بل اتخذ من الصعلكة والضياع فلسفةً عبّر من خلالها في شعره عن معاناته مع الحياة والناس، وكانت حياته الغريبة، كما يقول محمد رضوان في كتابه عنه "اعترافات فيلسوف الصعاليك عبد الحميد الديب"، الذي صدر منذ سنوات عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، التي أضنته وأشقته وخاض خلالها عدة تجارب في عالم التشرد والضياع ومستشفى الأمراض العقلية والسجن، مادة غزيرة لا تنفد لشعره الصادق والنابض بالحرارة وروعة الإحساس. يضيف كذلك رضوان فيقول إذا كان الديب قد اشتهر كشاعر صعلوك عبّر في شعره الساخر الصادم عن حياته ومأساة بؤسه، وعن موقفه من الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية في مصر في حقبة ثلاثينيات القرن العشرين، فإن له كتابات نثرية لا تقل جمالا وصدقًا عن شعره. لأول مرة يقدّر رضوان في كتابه هذا كتابات الديب النثرية كاملة، وهي تضم اعترافاته ولمحات من حياته وتجاربه المريرة في الحياة بكل تلقائية وتجرد يُكسبها صدقًا وقوة.
لقد روى الديب في اعترافاته الصادقة لمحات من حياته ومأساة بؤسه مع الناس وأفكاره وآراءه في الأحداث والقضايا الأدبية والاجتماعية والسياسية والفكرية، إذ لم يكن يستطيع أن يُداري هذا، بل كان يكتب كل ما يَعنُّ له حتى ولو جلب له المتاعب والمضايقات.
هذا لأنه، والقول لرضوان، كان يشعر أنه ضائع بلا أمل وأن البؤس هو توأم عيشته ورفيق دربه، ولم يحْفل بفقد منصب أو مكانة لأنه كان يعيش بلا مال ولم يكن يمتلك سوى الضياع في زمانه ووطنه.
إضافة إلى هذا يصف رضوان أسلوب الديب في كتاباته بأنه يتسم بإشراق البيان والرقة والوضوح والصدق والحرية والشاعرية والعذوبة ويُعدّ انعكاسًا صادقًا لطبيعته الشاعرية ونفسه الحساسة المرهفة.
في اعترافاته التي جمعها رضوان في هذا الكتاب يذكر الديب أن أصدقاءه كانوا قد اعتادوا على أن يُعرّفوه لكل من يلقونه بأنه الشاعر البائس عبد الحميد الديب، ولكن حظه سييء لأنه ضحية الزمن وأدركته حرفة الأدب. لقد وصل به البؤس إلى أن يقول إن الأدب لا يشفع لصاحبه عند الناس ما داموا يعتقدون في الأديب البؤسَ والمسكنة ورقة الحال.
ثم ها هو يتساءل: هبني فقيرًا إلى حد الفاقة، فهل كان البؤس معناه عدم المال؟ ألا يمكن أن يُوصف الغنيُّ بالبؤس لمرضه أو إخفاقه في حبه أو خوفه على الدوام من السطو عليه؟
وكم هو حجم المرارة التي نشعر بها الآن ونحن نقرأ له ما قاله عن نفسه بأنه لا منزل له ولذا يمكن أن نجده أفاقًا في الليل كالطريد المشرَّد قاضيًا فصل الشتاء ما بين الشارع والحياة.
كذلك يعترف الديب أن النساء جميعهن قد انصرفن عنه جراء شهرته بالبؤس، وبهذا يؤكد حرمانه من الحب والجمال.
هذا ومن يقرأ اعترافات الديب يضحك ويبكي في الوقت نفسه لما فيها من شقاء وبؤس، ولما فيها من مواقف طريفة وساخرة خاصة تلك التي حدثت له في مستشفى الأمراض العقلية، إلى جانب اعترافات الديب يتحدث رضوان عن معاركه الأدبية ومساجلاته الصحفية، وكذلك يتحدث عنه كأديب وناقد ذاكرًا بعضًا من مداعباته مع رجال الصحافة والأدب.