القاهرة 13 ابريل 2021 الساعة 10:00 ص
بقلم: حاتم عبد الهادي السيد
يحيلنا ديوان (مكاشفة) للشاعر محمد الشحات – منذ البداية إلى مفارقات "الإبيجراما" عبر قصائده التي تمثل "محطات فوق أرصفة الغياب"؛ والإبيجراما: هي القصائد القصيرة التى تتغيا التكثيف، عبر اقتصاديات اللغة المائزة؛ الترميزية لتحيلنا إلى الموضوع عبر الإزاحة، والتراكم، وعبر دوال المثيولوجيا، وسيميائية الرؤية، وتكشّفات الذات نحو الحياة والعالم.
فهو يغرب الذات؛ مقابل " انكسار الحلم " ويصنع من الشعر عجينة كونية للبوح / للمكاشفة / للفضفضة عبر سنوات الحياة التى أكسبته "خبرة الحزن" وجلال الرؤية واكتماليتها، وكأنها متصوف في محراب الذات، يوزع آهاته، سوسناته عبر محطات قطار العمر الذى مرَّ : بحلوه؛ وبمره، وبجلاله ونورانيته، وبأهواله كذلك؛ حيث تحيلنا سيمولوجيا العنوان إلى خفايا الروح، وإلى التصوف الذاتي، أو فلسفة الحياة التي عبرته، ورتقت روحه برؤى أكثر شوفًا، فغدا في محراب الحياة زاهدًا، كجوال يحمل صرة الحياة على كتفه؛ وهو يئن من الحزن، وتوالي الانكسارات، لكنه يعبر بزهو العاشق المبتلى، وبقوة مريد ترك ملذات الحياة، ليغوص في ملذات الذات ويتكشفها، فتنكشف له رؤى متباينة، وأحلام مؤجلة، ومواقف أكثر تعقيدًا، فيسير مع من أدركتهم الحياة ليعبر سماوات مملوءة بالوجع حينًا، وبالانكسار حينًا، وبالأمل في تغيير الواقع أحيانًا، لكنه بحكمة الزاهد، وصبر العاشق؛ نراه يتجلد، يجوح وحيدًا، ويصرخ في البراري، ويخاطب الطير والبحر والحبيبة والروح والعالم والكون والحياة عبر مكاشفات يفصح عنها؛ لتعرية الذات بعد أن أخفت الكثير وراء غبار الأبدية الممتد فهي:" ديمومة الحزن عبر الغياب"، وحلقة الوجع عبر البدايات.
ولعلنا نلمح ذلك من خلال تكشفاتنا لعناوين الديوان الذي بدأه بقصيدة "مغادرة"؛ وأنهاه بقصيدة "أنا والرحيل"؛ وبين: المغادرة والرحيل تظهر الأنا المظلومة التي تباينت أحوالها عبر الغياب، وكأنه يدور في تدورات الحزن الأبدى إلى ما لا نهاية؛ فليس لديه هنا سوى الغبار والبعاد والرحيل حتى في أجمل لحظات اللذة والرقص، تغادره الخيول لتخلف وراءها سيمولوجيا الغياب الممتد؛ يقول في قصيدته مغادرة:
(أحب الخيول إليَّ / التي تتمايل في رئتي/ وتمرحُ مسرعةً في ربوعي/ وترقصُ/ حين يراقصني الشوقُ/ كنتُ أكاشِفُهَا/ ساعةً حينَ أدركنِيْ وهَجَهَا/ والخيولُ تُلملمُ أصواتَها/ نازلتنِي الهواجِسُ/ غادرنِي في العراءِ غبارُ الخيولِ).
إنه يصنع " أسطورة اللذة " عبر مثيولوجيا التَّوهم؛ وعبر الحلم بلذة تجىء وتغيب، وهو الموزع "بين الحضور والغياب"، فإدراك الوهج هنا ليس مقصودًا بالمواقعة للتي تراقصه، والتي هي فتاة الحلم، فهو رقص في المخيلة، عبر تمنيات تماهيه عن الحقيقية، وتقذفه مباشرة في هواجس الحلم الذي يشبه السراب، وغبار الخيل التي تبتعد مسرعة عند الرحيل.. ومع أننا نلمح "منمنمات صوفية" للغة تتكشف في خجل، وتُعَرَّي الذات ببطء، فلربما حظيت بلذة ولو في التعري ذاته، لكنه يخاتلنا ليكشف لنا عن روح وثابة / مثابرة / عنيدة / لا تستسلم للانكسارات رغم مرار الواقع، وتكرارية الهزائم النفسية والواقعية، لكنه يعبر بالصبر إلى سماوات البوح كي لا ينفجر عقله الصغير، وكأن البوح والمكاشفة والشعر هو العلاج الناجع للشفاء الذاتي والروحي، عبر مخيال الصور الباذخة التي تجسد "صورًا تشكيلية/ بصرية" يرسمها لنا – طوال الوقت، ليعبر باللغة والصورة واقتصادياتهما المائزة جزيرة الحزن في الذات، ليدلف إلى ملذات الهروب إلى الزهد، أو أنه يبحث عن اليقين الروحي من خلال ملابسات ومواقف الحياة المريرة التى صادفها؛ من خلال ثلاثيته التي قسمها إلى ثلاثة أقسام: سقوط/ هبوط / الصعود؛ ولنلحظ أنه أتى بلفظتي السقوط والهبوط مُنَكَّرَتَيْنِ؛ ثم أتى بالصعود "مُعَرَّفًا" بالألف واللام ليدلل إلى قوة السقوط والهبوط في تنكيرهما، وصعوبة الصعود بعد كل هذه الصدمات فتم تعريفه كفعل مُظْهِرٌ للقوة؛ أو دليل إلى الذات وعدم استسلامها، أو أن الصعود يشوبه مرار ومصاعب كثيرة، فيتنازعه السقوط والهبوط، وكأنهما يشدانه إلى البئر لكن الألف واللام تمثلان "عكازىّ النجاة" لمن يتسلق جبل الجليد والثلج، وللتدليل على تأكيدية وإصراره على الصعود رغم الهزائم المتكررة يقول :
1-سقوط: كيفَ لا يسقُطُ وَجهِي؟ / حينَ تدعُو طفلتِي كفِّي/ لكيْ ينزعَ عنْهَا/ خوفَهَا الجَاثِمَ دومًا/ فوقَ عينيهَا.
2-هبوط: حينَ فاجَأتُ وجْهِي/ علىَ صفحةِ المَاءِ/ فاجأنِي اهتزازُ ملامِحِه/ ضياعُ التقاسِيِمِ.
3- الصعود: الرِّياحُ التيْ في فؤادِي/ تصعدُ/ حينَ القلبُ يخفِقُ.. حينَ اخترقتُ حواجزَ الأشياءِ/ كانَ النَّهرُ يجلسُ/ والنَّهارُ يُعاودُ الترحَالَ/ والأصواتُ تسقُطُ/ خلفَ/ غولِ الصَّمتِ/ تسقُطُ في دمِي/ فيشُدُّنِي خوفِي؛ فأصعدُ/ أستظلُّ ببعضِ أحلامِي قليِلاً/ ثمَّ أصعَدُ.
ولعل هذه المواقف الثلاثة "لثلاثية السقوط والهبوط والصعود"؛ لا تمثل تراتبية منطقية كذلك، وكان الأولى به -بحسب التوقع- أن يبدأ بالهبوط أولاً والذى يمثل مرحلة أقل ضرراً من السقوط الذى يعقبه ارتطام، لكنه قلب المعادلة ليدلل إلى عِظم المصيبة وجلالها، فبدأ بالسقوط ؛ ثم تبعه بالهبوط بعد السقوط ليصل إلى النهاية التى لا أمل للخروج منها، ثم بدأ بالصعود من أسفل القاع ونهاية المأساة ليبدأ تنامي الحلم رغم تجاذبية السقوط والهبوط لهذا الصعود المضاد، وتلك دلالة نفسية كبيرة على قوة الارتطام وبشاعته، والإصرار على الصعود بقوة من جديد، وكأنه يطبق المثل القائل "العصا التى توجعنى تقويني"، وفى هذا تمسك بالحياة رغم مرارتها، وتمسك بتحقيق الحلم، ومعاودة الأمل بعد رحلة الضياع والهزائم والارتطام والهبوط إلى القاع، ليعود من جديد إلى استشراف القمة، بل وتصدرها من جديد.
إنها أهوال شاعر عبر رحلتي: الهزيمة والانتصارات، وعبر الهزائم النفسية، وتشوّفات الحلم، ليطرح مكاشفته، ويُصِرُّ على أن يعرف قصته العالم، يقول بعد هذه الرحلة في قصيدته: "مكاشفة"، والتى رفدها – إلينا - بعد الثلاثية، وكأنها نتيجة لعودة الحضور بعد الغياب، لتبدأ مكاشفات البوح للعالم والحياة؛ يقول:
(يجلسُ النَّهرُ/ في لغةِ الماءِ/ يخرجُ/ في زينة المُلك/ يحملُ كلَّ الذي يرتضِيهِ/ وتمضِي بهِ ذكرياتِي/ غنَائِي الطفُولِي/ يحمِلُ رائِحَتِيْ/ حينَ أسلمْتُ نفسِي إليهِ/ فكيفَ إذا هدَّهُ السيرُ/ مالَ../ علىَ شاطِئَيْهِ/ف ضاعتْ بهِ/ ذكريَاتِيْ..) .
ورغم انتصاره، وعودة الصعود الجديد نراه حذرًا من هذا السقوط؛ فلقد تعلم الدرس، وأصبح أكثر خوفًا، فهو وإن خرج منتصرًا كملك متوج بعد حرب شرسة، وأهوال عنيدة، فهو يحسب لكل شيء حسابًا، ويخشى من تعب النهر من جديد، فيميل، ويجنح إلى الانكسار عن المجرى الصحيح المستقيم، ولو حدث ذلك لضاع هو مع ذكرياته، وضاع زهوه بالانتصار على الشدائد، والذات، وكل شيء لاقاه في أهوال العالم التي لاقاها سلفًا.
وفي قصيدته "انتصاف" نرى زهو النصر، ولغة جديدة لم نصادفها منذ أن مر بالأحزان، فقد عادت له البهجة، وتغيرت لغة م أصوات القصيدة / موضوعاتها / وبدأت تتكشف من جديد ملامح "لغة السعادة المضيئة" لتنتصر الإرادة بعد تكرار الهزائم، ويعلو صوت الوهج، وتطلع الشمس باسمة وسعيدة ومزهوة بِالْعَوْدِ الجديد، يقول:
(الطواويِسُ/ تزهُوُ بألوانِهَا/ وتسرقُ منْ وهجِ الشَّمسِ/ ثوبًا لها/ وتلهُو/ بأعينِنَا/ حينَ نُلقِي لهَا/ نظرةً/ كيفَ تكسَّر الضوءُ/ منْ فوقِ أثوابِهَا/ فيبهجُنَا/ وتزهُو الطواويسُ/ حينَ تريَ وجهَنَا).
ولعلنا نلحظ تبدل مظهرية الصورة بعد سوداويتها، وبعد تراكمات الحزن واللوعة، لنشاهد زهوًا، حيث يتهادى الضوء ويتكسر فوق ثوب المحبوبة التي نالها بقوة الإرادة، بعد الحرب الشرسة التى كان يعارك فيها أهوال الحياة والعالم، وهنا تتناسب اللغة مع المواقف، وتتواشج الصورة النفسية والذاتية مع مواقف الحب والسعادة والجمال الكوني البهيج.
وتأكيدًا للذات عبر مفارقة ولعبة "الصورة والظلال" نرى الشاعر ينظر عبر مرآة الذات ليتمرأى الجمال، ويحلق في سماوات البهجة، ثم يعاود النظر من جديد عبر ديمومة: التدوير، ولعبة الصورة والظلال، وانكسار الضوء عبر قوس قزح الذات، لتدغم الذات في الذات، وتتمرجح الروح على مرمى الشوف مفعمة بالحياة، يقول في قصيدته: "ارتحال":
(أخرجُ كلَّ صبَاحٍ/ منْ وجهِيْ/ وأحَاولُ/ أنْ أسكنَهُ في ذاكِرتِي/ حتَّي إنْ عدتُ إليهِ مَسَاءً/ يعرفُنِي أوْ أعرفُهُ/ يحلُو لي أنْ أنظرَ فِي مِرآتِي/ بعضٌ مِنْ وجهِي/ ينظرُ خَلفِيْ/ وأنَا أنظرُ فِي منْ حولِي/ كانَ دمِي ميراثُكَ/ تملكُ كلَّ مفاتِيِحِي/ وتُحَاولُ أنْ ترتَحِلَ/ إلىَ نفسِي/ فأحَاوِلُ أنْ أرتدَّ/ إلىَ ذاتِي).
إنها رحلة النكوص إلى الذات، والزهو بعد الانكسار، ورؤية مظاهر القوة، في أشكال الحياة كافة، وكأنه بيجماليون الجديد، يتمرأى في ذاته، عبر جميع أحوالها، وأشكالها، ويتذكر الحبيبة عبر تمثالها / صورته في المرأة / وعبر لعبة الصورة والظلالم الفلاش باك/ والزهو بعد طول معاناة، فدمه كان ميراثها التي امتلكته، وهو يحاول العودة من جديد، فهل ينجح بعد مرور العمر، وتوالى الانكسارات، ورغم انتصاره الأخير كذلك؟ ربما.
إن شاعرنا محمد الشحات يصنع بطلًا سورياليًّا، مثيولوجيًّا، وكأنه يعيد لنا رسم أسطورة الإغريق للبطل الذى يحارب التنين ذا الرؤوس المتعددة ، لكنه ينتصر في النهاية ليعود بالفروة الذهبية إلى حبيبته التى تنتظر مهرها، وعودة الفارس البطل من جديد، ولقد استطاع عبر لغة الشوف، ومنمنماتها الشذرية الصوفية، وفلسفتها الحزينة، وعبر صور الجمال والحزن أن يعيد إلينا أسطورته/ قصته/ ليحكي مكاشفاته/ فتوحاته عبر الذات والعالم والكون والحياة؛ فرأيناه في النهاية متبولًا على عتبات الوجد، يفلسف الحياة بالحب، ويظل ينظر من جديد، يقول :
(الوجدُ غلَّفَ مُقلتِيْ/ وتطايَرتْ ريحُ اشْتياقِيْ/ واختفَتْ أشلاءُ قلبِيْ)
لقد اختفت أشلاء القلب، ولم تتلاش هنا؛ بل حملتها رياح الوجد والشوق، لتتجمع من جديد عند قلب المحبوبة؛ لتتم المكاشفة، وينغم مع المعشوقة، لتتكشف معادلة الصعود بعد السقوط، والهبوط، ولتتم المكاشفة الحميمة؛ عبر العتاب الشهيّ الجميل.