القاهرة 06 ابريل 2021 الساعة 09:54 ص
بقلم: طلعت رضوان
من بين الروايات التى حازتْ شهرة عالمية رواية (جسرعلى نهر درينا) من تأليف الروائي اليوغسلافي إيفو أندريتش (1892- 1961) المولود فى منطقة البوسنه، التي كانت تابعة للاحتلال العثماني، وهذه الرواية كانت أحد أسباب فوز مؤلفها بجائزة نوبل عام1961، وقد تــُـرجمتْ إلى عدة لغات ومن بينها اللغة العربية، من ترجمة المترجم السوري الكبير د. سامى الدروبي، وقد صدرتْ عن دارالهلال- عدد ديسمبر1976، وأشار في المقدمة إلى أنّ المؤلف حصل على درجة الدكتوراه (عن الحياة الفكرية فى البوسنة والهرسك فى عهد السيطرة التركية) وأنّ معظم مؤلفاته تدورحول الغزوالتركي ليوغسلافيا.
قرأتُ هذه الرواية مرتيْن لأهميتها، ثم عدتُ إليها في هذه القراءة الثالثة..
في الفصل الأول ذكرالمؤلف أنّ الجسرهو الممرالوحيد على المجرى الأوسط والأعلى من نهردرينا، والعقدة اللازمة التى تربط بين البوسنة والصرب، ومن خلال الصرب تربط بين البوسنة وسائر أجزاء الامبراطورية العثمانية حتى استانبول، وأنّ الجسر بــُـني بمعرفة الوزير الأكبر محمد باشا.
ونظرًا لأنّ بناء الجسر قام على أكتاف أهل الوطن المسيحيين، وكلــّـفهم الكثيرمن التضحيات، لذلك فقد نظــّـموا أنفسهم في (جماعات سرية) مهمتها تكسير كل جزء بعد إقامته، ولما بدأ القائد التركي المشرف على بناء الجسر في القبض العشوائي على كثيرين من أهالى الوطن وتعذيبهم لمعرفة المتسببين فى التخريب، لذلك استخدم رجال المقاومة الميتافيزيقا، وأشاعوا في أرجاء الوطن أنّ (بعض أنواع من الجن تأتى ليلا وتقوم بعمليات التخريب) وتولــّـد عن هذه الميتافيزيقا أسطورة فحواها أنّ البعض نصح المهندس (راضي، مصمم الجسر) أنّ يجيىء بتوأميْن رضيعيْن واسمهما (ستويا وأوستويا) ويدفنهما فى جدران أعمدة الجسر، وبعد أنْ سمع المهندس هذا الكلام أصدرأوامره لتابعيه بالبحث عن هذيْن التوأميْن فى البوسنة كلها، وقد استطاع الجنود الأتراك العثورعلى طفليْن رضيعيْن فى قرية بعيدة وانتزعانهما من أمهما عنوة، وأمر المهندس التركي بدفنهما فى العمود، ولكنه أشفق على الطفليْن فترك فى العمود فتحتيْن كي تستطيع الأم أن تــُـرضع طفليها، وأنّ هاتيْن الفتحتيْن ثغرتان كالنافذتين، جعلتا من العمود صورة فنية، وتتخذ منهما اليمامات أعشاشــًـا، وأنّ لبن الأم- كما تقول الأسطورة- يسيل من الجدار منذ مئات السنين، تخليدًا لهذه الذكرى، وأنّ فكرة لبن الأم المرضعة توقظ في ضمير الأطفال ذكرى شيء غامض عجيب، والناس يحكون هذه الآثار اللبنية التى تسيل من الأعمدة ويجعلون منها مسحوقــًـا طيبــًـا ويبيعونه للنساء اللائى ينضب لبنهنّ بعد الولادة.
وبعد هذه الافتتاحية، بدأ المبدع في مزج الأساطير بالواقع، وهذا المزج تناول قصة البطل القومى (راديسلاف) زعيم الصرب، الذي قرّرالوزير التركي القبض عليه، وهذا الوزير لم يكن يعرف أى شيىء عن (راديسلاف) لولا الرشوة التى دفعها أحد الأتراك، لمعرفة اسم (زعيم الصرب)، وبعدها تــمّ ذبح راديسلاف أثناء نومه وكبــّـله الجنود الأتراك بالحبال، وبعد دفنه انتشرتْ أسطورة فحواها أنّ نورًا كان ينبعث من قبره ويــُـضيىء مساحة كبيرة من المنطقة، وأنّ آخرين رأوا نورًا أبيض على القبر، ولكن الأتراك حوّلوا الأسطورة لصالحهم، فزعموا أنّ وليــًـا من أولياء الله قد استشهد (منذ زمن بعيد) في سبيل الله واسمه الشيخ (تركمان) وكان يحارب الكفار المسيحيين، حتى يمنعهم من اجتياز نهردرينا، وبسبب دوره الوطني لصالح الامبراطورية العثمانية، فإنّ السماء تــُـنير قبره.
أما كبار السن من العقلاء، فإنهم لايستحبون الأساطير، لا من الجانب اليوغسلافي، ولا من الجانب التركي، ولكنهم يحكون لأولادهم ما عاشوه وشاهدوه من ذكريات أليمة، ألحقها الأتراك بشعبهم، فيقولون أنه هنا (في هذا المكان) ومنذ سنة 1878 كان يــُـشنق أو يــُـرفع على الخازوق كل مـُـعارض للسلطة التركية، وكانت الإعدامات كثيرة، وعندما اشتدتْ مقاومة أهالي البلد كانت أوامرالسلطة للجنود الأتراك القبض (حتى العشوائى) على كل من يــُـشتبه فيهم (ضمن المتمردين والمخرّبين)، وكان لابد من الاستمرار في التحقيق مع المجرم المقبوض عليه، حتى يعترف على شركائه، ويجب الحرص على حياته أثناء التعذيب، بحيث يظل على قيد الحياة ولا يموت، وبعد ذلك يتم الاستعداد لرفعه على الخازوق، في أعلى موضع من السقالات، حتى تراه المدينة كلها، وحتى يراه جميع العمال على ضفتىْ النهر، وحتى يعرف الجميع نهاية كل من يجرؤعلى تخريب الجسر، ويجب حشد الأهالى الكفرة (من شيوخ ونساء وأطفال) ليــُـشاهدوا إعدامًا لمخربين على الخازوق، أما الأتراك فيجب أنْ يــُـشاهدوا هذه الاحتفالية.
قـدّم المؤلف وصفــًـا بالغ الدقة (بالرغم من بشاعته) لعملية الخوزقة، التى كان يــُـشرف عليها (عابد أغا) المسئول عن إعدامات مخربي الجسر، فذكر أنّ الخازوق مصنوع من السنديان، ويبلغ طوله 264 سم، ويجب أنْ يكون حادًا، وذروته من الحديد، ومدهون بالشحم، وعلى السقالات يتـمّ تسميرالأوتاد، وكان ثمة (مطرقة) من الخشب لدق الخازوق وغرزه.
قال المأمور لعابد أغا: اسمعنى جيدًا، إذا لم يتم كل شيىء كما ينبغى أنْ يكون، وإذا جعلتنى أضحوكة أمام الناس، فلا تظهر أمامي بعد الآن، لا أنت ولا هذا العبد الذي سيدق الخازوق، وإذا لم تكن الخوزقة (على أصولها) فسوف ألقي بكما فى نهر درينا مثل الكلاب النافقة.. ونظرالمأمور للعبد وقال له: لك مني ستة دنانير، إذا أبقيتَ المجرم حيــًـا إلى المساء، ولوتأكدتُ من مهارتك، سوف أمنحك ستة دنانير أخرى، ومن أعلى مئذنة بجامع المدينة الرئيس دوى صوت المأمور حادًا واضحــًا، ليــُـعلن بدء الخوزقة، وانتشرالخبر بين رعب أهالى البلد الوطنيين، وفرحة وابتهاج الأتراك.
خرج راديسلاف المحكوم عليه بالموت بالخازوق من الزريبة التى كان محبوســًـا بها، كان يقفز بساقيه الجريحتيْن، والدم يخرج من بين أصابع قدميه، وهو يحمل على كتفيه خازوقــًـا طويلا حادًا، ووراءه يسير العبد مرجان، وعبدان آخران للمساعدة فى عملية الخوزقة، وفجأة ظهر المأمور ليــُـتابع التنفيذ.
مدّ الناس أعناقهم ووقفواعلى رءوس أصابعهم، ليروا الرجل الذى نظــّـم المقاومة ضد الاحتلال التركي، وظهرتْ الدهشة على وجوه الناس وهم يرون المظهرالبائس لهذا الرجل، فقد كانوا قد رسموا صورة له من خيالهم، صورة عملاق لا ينحني ولا يــُـهزم، خاصة عندما طلب من المأمور أنْ تكون الخوزقة سريعة، ولكن المأمور نهره بعنف وقال له: امش أيها الكلب.. هذا جزاء من يتحدى سلطتنا.
اقترب العبدان من راديسلاف، ومزّقا قميصه فظهرتْ الجروح في صدره، وشدا يديه إلى ظهره، ثـمّ ربطا كل ساق من ساقيه بحبل، وأخذ كل منهما يشد الحبل ناحيته، فتباعد ساقاه تباعدًا كبيرًا، وبينما كان العبد يضع الخازوق على قطعتيْن قصيرتيْن من الخشب، بحيث يــُـصبح رأس الخازوق بين ساقى راديسلاف، وعندئذ أخرج أحد العبديْن سكينة وركع قرب الرجل المــُـمـدّد على الأرض ومال عليه ليقطع قماش سرواله بين الفحذيْن، ليــُـوســّـع الفتحة التى سينفذ منها الخازوق إلى الجسد، وهذا الجزء الرهيب من الخوزقة، لم يتمكن معظم المشاهدين من رؤيته، وإنما رأوا المحكوم عليه يرتعش، بعد الطعنة السريعة، ويرتفع بعض الارتفاع كأنما يود النهوض، ولكنه ما لبث أنْ سقط فجأة، وتناول العبد مطرقة من الخشب، وأخذ يدق بها الطرف الأدنى المدوّر من الخازوق، طرقــًـا بطيئــا محسوبــًـا بدقة، وكان يتوقف بين كل طرقة وأخرى، وينظرإلى الجسم الذى ينفذ منه الخازوق، ثـمّ ينظر إلى العبديْن ويحثهما على شد الحبل من الاتجاهيْن المتباعديْن، وكان جسد راديسلاف يتشنج تشنجــًـا طبيعيــًـا وقد تباعدتْ ساقاه، وكلــّـما نزلتْ المطرقة بضربة جديدة، انحنى عموده الفقرى وتقوّس.
كان الصمت على الضفتيْن قد بلغ من العمق، لدرجة أنّ الناس كانوا يسمعون الطرقات وصداها، وكان أقربهم يستطيع أنْ يسمع راديسلاف وهو يضرب الأرض بجبينه، وأنْ يسمعوا صوتــًـا يختلف عن أصوات البشر، واختلطتْ لديهم أصوات الأنين والحشرجة، لقد كان يخرج من الجسد المـُـمـدّد على الأرض صرير أو صريف كأنه صوت سياج من الأوتاد، أو كأنه صوت شجرة تتكسر، والعبد ينظر بين فترة وأخرى ليرى هل يتقدم الخازوق فى الاتجاه الصحيح، وإذا تأكد من أنه لم يجرح أى عضو من أعضاء الجسد، عاد ليــُـتمم عمله، وقد توقفتْ الضربات خلال لحظة، وقد لاحظ العبد مرجان أنّ الكتف اليمنى قد توترتْ عضلاتها وانتصب جلدها، فاقترب بسرعة وأحدث فى موضع الانتفاخ شقــًـا على صورة صليب، فخرج من الجرح دم شاخب، بدا قليلا فى أول الأمر ثـمّ تزايد بغزارة، وبعد عدة ضربات ظهر رأس الخازوق فى الموضع المشقوق، وظلّ العبد يدق بمطرقته إلى أنْ أصبح الخازوق في مستوى الأذن اليمنى علوًا.
لقد دخل الخازوق في راديسلاف كما يدخل السيخ فى الخروف، لا فرق بين الأمريْن إلاّ أنّ الخازوق لم يخرج من الفم وإنما خرج من الظهر، وقد اقترب المأمور ليفحص المخوزق، ونظر إليه وشرايينه تخفق وسمعه يقول من بين حشرجاته: أتراك على الجسر أتراك كلاب، وقد تأكد المأمور أنه لا يزال حيــًـا وأنّ أعضاءه لم تــُـمس، وبعد ذلك تأتى المرحلة الثانية، وهي (صلب) المخوزق ليظل على الصليب عدة أيام ليكون عبرة لكل مسيحي كافر يتجرأ على سلطة الأتراك، وكان أهالي البلد (الكفرة) ينظرون إلى الفلاح راديسلاف الذي تحدى الأتراك وخرّب الجسر وتعرّض للخوزقة ويقولون: "إنه شهيد إنه شهيد" وهكذا لم يكن أمامهم إلاّ اللجوء إلى الميتافيزيقا لعلاج أوجاعهم الاجتماعية.
وبالرغم من استمرار حالات الخوزقة والقبض العشوائي على كل مشتبه فيه، فإنّ الغضب ضد الأتراك تحوّل إلى (ثورة)، وصحيح أنه كانت تتخللها فترات (هدنة) تطول أو تقصر ولكنها استمرّتْ عدة سنين.
وعن صور فساد النظام التركي، فعندما غادرعابد أغا البوسنة في مهمة إلى العاصمة التركية، حلّ محله (عارف بك) الذى كان موضع ثقة عابد أغا وكاتم سره، وكان يعلم أنه استخدم أكثر من ثلاثمائة من العمال فى بناء الجسر بنظام (السخرة) دون الحصول على أى أجر، وأنهم كانوا فى كثيرمن الأحيان يشترون طعامهم من أموالهم الخاصة، بينما كان عابد أغا يحتفظ بالأموال المخصصة لتوزيعها على العمال لنفسه، وعندما انتشرهذا الخبر، فإنّ الأهالي المسيحيين وكذلك الأتراك المسلمين لعنوا فكرة الجسر ولعنوا الشخص الذى أمر ببنائه.
وعن علاقة عابد أغا بمساعده (مأمورالدرك) فإنها علاقة مريرة؛ حيث إنّ مأمور الدرك كان يشعر بخوف رهيب من عابد أغا الذى قال له سوف أرفعك على أعلى خازوق، قبل أنْ أدفنك، إذا تهاونتَ فى عملك.
وكان الوالي التركى على البوسنة (على خجا) يكره المسيحيين ويحب مناداتهم (بالكفار)، ولكنه اندهش عندما علم بأنّ السلطان تنازل عن البوسنة للنمساويين، ويبدو أنّ أحدًا وشى ب(على أغا) عند السلطان، فأمر بتسمير أذنه، ولم يــُـخلصه من هذا المسمار إلاّ جندى نمساوي عندما سمع أنينه، ولذلك قال: هؤلاء الأتراك وُلدوا فى عصرالانحطاط التركي في القرن التاسع عشر.
اختارالمبدع اسم (ميخائيلو) كأحد أبطال المقاومة ضد الأتراك، وهو نفس الاسم الذى اختاره كازانتزاكيس لبطل روايته (الحرية أوالموت).
وفي الجزء الثانى ركــّـز المبدع اليوغسلافي على أهمية الروح القومية، التى شملتْ دول البلقان، وأشار إلى خطورة التعصب الديني، وأنّ مقاومة هذا التعصب تكون بتشجيع اختلاط واقتراب الثقافات المختلفة للشعوب، وأنّ هذا الاختلاط فيه الدرس المفيد والأكيد على أنّ سمات الشعوب متقاربة من حيث حب الفضيلة ونبذ الرذيلة، وأنّ تركيا كما انتزعتْ خيرات يوغسلافيا، فعلتْ نفس الشيء مع سائر الشعوب التى استعبدتها حتى لو كانت شعوبا مسلمة، وكان الفساد التركي قد ولــّـد الحتمية الطبيعية لنهاية الخلافة العثمانية، والتى بدأ التمهيد لها فى يونيو1908بثورة (تركيا الفتاة) التي أنهتْ حكم السلطان عبدالحميد.
وكانت الخاتمة الحاسمة عندما أعلن الزعيم التركي (كمال أتاتورك) سقوط الخلافة العثمانية، وإنهاء نهب الشعوب عندما قال: إنّ تركيا الحديثة، تركيا العلمانية، تتنازل عن الجزية وتبدأ مرحلة الاعتماد على نفسها.