القاهرة 23 مارس 2021 الساعة 01:35 م
بقلم: محمد زين العابدين
"لا دينَ إلا الحُب".. اختار الشاعرُ الأزهري الثقافة "حازم مبروك" هذا العنوان المجازي الجميل، والجريء لديوانه الصادر عن الدار المصرية اللبنانية، ويضم الديوان إحدى وعشرين قصيدة؛ تتشبث بروح الشعر الأصيل، وموسيقاه الخليلية الموزونة، ما بين العمودي والتفعيلي.
وعلى الغلاف الخلفي للديوان اختار تصديرًا لديوانه ببعض أبيات القصيدة التي اقتبس منها عنوان الديوان؛ وهي (مؤمنٌ بطريقتي)، والتي يرسم فيها رؤيته للإيمان الحقيقي، والدين الحقيقي، والحب الحقيقي؛ والتي يجب أن يكون عنوانها التسامح وحب الخير للآخرين، ونصرة المحبين والضعفاء بعيدًا عن رؤية المتشددين للدين:
أنا يا ابنَ أمي مؤمنٌ بطريقتي لا مِثلَ ما قالوا ولا ما عللوا
أنا مؤمنٌ بالرَّبِ.. فرحة ثاكِلٍ شبع اليتامى مُنجِزٍ ما أمَّلوا
أنا لا أراهُ هنـاكَ لكِـنْ هَـهُنا هُمْ أبعدوهُ وحرَّمـوهُ وحلّلوا
لا ديـنَ إلا الحُبِ لستُ بصـابيءٍ لكِـنْ بـهذا دينُهُ يتـنـزَّلُ
فهو يقررُ منذ البداية أنه لا يمكن أن يتجافى أي دين مع الحب والتسامح، والحق، والخير، والجمال، بل إن الدين الحقيقي الذي أنزله الله كان رحمة بالعالمين، ودعوة للحب، والتعارف، والإخاء، والسلام بينهم؛ وليس للتنافر والتشدد، وهو بهذه الأبيات يقتفي خط القطب الصوفي الأكبر"محيي الدين ابن عربي" حين قال:
(أدينُ بدينِ الحُبِّ أنَّى توجَهَتْ * ركائبُهُ، فالحبُ ديني وإيماني).
ويستفيد شاعرنا من اطلاعه الواسع على التراث؛ من خلال دراسته المتعمقة بكلية اللغة العربية، التابعة لجامعة الأزهر الشريف؛ حيث واصل دراساته العليا في مجال اللغويات حتى الحصول على الدكتوراه، كما أنه منفتحٌ على آفاق الحداثة الشعرية العربية. ونلمح في قصائده تأثره الواضح بالنصوص القرآنية الكريمة، والأحاديث الشريفة، واستفادته من البلاغة المكتنزة فيها من خلال استخدامه للتناص معها أحيانًا ببراعة شعرية، وتوظيف الاستعارة والمجاز بشكل جميل، ففي قصيدة بعنوان (مَثاني الحُب)؛ يبدو هذا التأثرُ واضحًا؛ يقولُ فيها:
"سَبْعٌ مَثاني الحُبِ، وهي ثمانيةْ أسرَرْتُ فيها ما أسِّرُ علانِية".
وفي قصيدة أخرى بعنوان (مِعْراج) يقول:
"مرَّ عُمْرٌ، ولمْ تزّلْ بكِ روحي رجفةَ الشوقِ في الشفاهِ العليلهْ
قاسٍ الوَجْدُ حينَ يسكُنُ في النفسِ وأقسَى حينَ ينوي رحيلَهْ...
غيرَ أني اخترقتُ مِعْراجَ روحي فهُنا يتركُ الخليلُ خليلَهْ
كلما تُهتُ في سمائكِ بُعْدًا مدَّ لي القُرْبُ حبلَهُ ودليلَهْ".
ولأن تخصصه الدقيق في النحو؛ فهو يمتطي صهوة جواد اللغة باقتدار، ويطوع تركيباتها بحسٍ مرهف. وقد صقلَ تجربته من خلال مشاركته في مسابقة أمير الشعراء بدولة الإمارات العربية في موسمها السادس. وبالإضافة للديوان الذي نعرضُ لهُ؛ أصدر قبله ديوانًا صوتيًّا بعنوان (قال الشاعر)، بالإضافة إلى مجموعة من الدراسات الأدبية واللغوية.
الحبُ ملاذ للأرواح المغتربة:
الخط الرئيسي للديوان إذن هو الحب؛ بوصفه شفاءً لأمراض البشرية، وملاذًا للأرواح المغتربة، ووطنًا للنفوس المتعبة؛ الحب بمعناه القريب، ومعانيه العميقة البعيدة المغرقة في الشفافية والتصوف والشجن. والحبُ عند الشعراء هو خبزُ القصيدة الذي يُقِيم أوَدَها، ويشّدُ عُودَها. في قصيدة (الشعرُ موعدُنا) يقول:
فامنَحْ فؤادَكَ للحياةِ وكُنْ بها بيتًا بجوفِ قصيدةٍ إسراؤهُ
الشِعرُ نافذةُ القلوبِ إلى القلوبِ وزادُ حَجِّ العاشقينَ وماؤهُ
ويتخفف الشاعر من كل أثقال الدنيا وأوجاعها عند باب الشعر، وفي حضرة العشق، واثقًا من رحمة الله ومباركته للمحبين وغفرانه لخطاياهم؛ لأنه سبحانه ألقى الحب في قلوب البشر، وليس لهم ذنبٌ في ذلك؛ فهو كما يقول في قصيدة (الأرض) التي يفتتح بها الديوان:
"اللهُ أبدَعَنا بقلبٍ عاشقٍ فإذا عشقتُ فما عليّ عِتابُ"
والقصيدة حافلة بالتحليق في الإشراقات الصوفية الشفيفة، والاقتباسات القرآنية الجميلة. ولعل اختياره لعنوان القصيدة (الأرض) يشير إلى أن الحب على الأرض يرتقي بالمحب إلى عنان السماء، ويبعده عن ضجيج الأرض وأوجاعها:
ألقيتُ عند البابِ كلَّ مواجِعي فبلا مواجِعَ تُوصَدُ الأبوابُ
خلـيِّ المَـلامَ لأهلِهِ وتهـَّيئي قـُدَّ القميصُ وكـُلُنا كذابُ
اللهُ أبدَعَـنا بقـلبٍ عاشـقٍ فإذا عشقتُ فما عليّ عِتابُ
سنقولُ للرحمنِ عندَ لقائهِ كُنّا نُحِّبُ فليسَ ثَمَّ عذابُ
ويختتمها مسك الختام بأبياتٍ تعبر عن أن الحب لا يخضع للأسباب والتفسيرات المنطقية:
إنْ يطرُقْ العشاقُ أبواب الهوى فأنا دخلتُ وليسَ ثَمَّةَ بابُ
أو يستقي سُحُبَ المَوَّدةِ ظاميءٌ فلقَدْ سُقِيتُ وما هُناكَ شرابُ
ما تفعَلُ الأسبابُ؟! سُبحانَ الهوى أن تحتويهِ بقلبِنا الأسبابُ
ويعبر في قصيدة أخرى بعنوان (اغترابْ) عن أقسى صور الاغتراب؛ وهو الغُربَة في الوطن الذي تنتمي إليه بكل كيانك، لكنه يئِدُ أحلامَكَ، ويصدمك بالواقع المرير، واليأس القاتل:
"قدْ يُنكِرونَ فصَدِّقْهُم إذا كَذَبوا بينَ المُحبينَ لا صدقٌ ولا كَذِبُ
ونحنُ تُنكِرُنا الناياتُ.. نعزِفُها ونحنُ تَجْحَدُنا الأوطانُ.. ننتَسِبُ
كلُ المسافاتِ لا تُفضي إلى وطنٍ ونحنُ نعلمُ.. لكِنْ للمَدى نَثِبُ
هيَ الأماني وما في الوقتِ مُتّسَعٌ تَضيقُ عن حُلمِنا الأوقاتُ والحِقَبُ
في الجُبِّ أحلامُنا البيضاءُ ناظرةٌ لعلَّ حبلًا هُنا ألقى بهِ التعَبُ"
الفَناء في العطاء:
لكنه بعد هذا الاغتراب واليأس؛ يعودُ في واحدة من أجمل قصائد الديوان، بعنوان (الأسئلة)؛ فيتشبث بالحلم ويرمز فيها لماضي الوطن، وحكمة الأجداد؛ من خلال لوحة لجدته التي تعلم منها عدم التنازل عن الحلم، وأن يخّلِدَ الإنسانُ نفسَهُ من خلال تفانيه في العطاء. والأجمل أنه يربط فيها بين ملامح الجدة وملامح المحبوبة، في إشارة لافتة إلى تواصل الأجيال وأصالة المرأة المصرية:
"صمتُ الإجابةِ لا يُرِيحُ الأسئلهْ الروحُ تائهةٌ، وقلبُكِ بَوْصَلَهْ
لي.. قبلَ ميلادِ التّصَحُرِ جَدّةٌ كانت تُحّدِثنا حديثَ السُنبلهْ
كانت لها عيناكِ، قلبُكِ، بحَّةٌ في الصوتِ، حضنٌ.. أختفي وأعودُ لهْ
حدّثتُها مِلءَ الجِدالِ.. فهّدهدتْ غضبَ السؤالِ.. وجاوبَتْ لتُعّلِلهْ
لا شىءَ يبقَى غيرَ ما نَفنَى لهُ فامنَحْ فناءَكَ فرصةً كىْ تقتلهْ
إنْ لمْ يكُنْ حُلمُ الحياةِ حقيقةً فامدُدْ يديكَ إلىَّ كىْ نتأوّلَهْ".
قصيدة خطابية تدعو لإصلاح البشر!
بالرغم من أن معظم قصائد الديوان تغلب عليها اللغة المجازية، الهامسة، المليئة بالشجن والصور غير المباشرة، إلا أن الشاعر لم يكن موفقًا في أن يختتم الديوان بقصيدة بعنوان (بيئة النفس) يبدو أنه وضعها لإكمال النصاب المطلوب من القصائد لاستكمال الديوان؛ إذ أن لغتها تغلب عليها الصور التقليدية المباشرة والإنشائية المكررة، ويبدو أنه كتبها في بداياته. ولننظر إلى مطلع القصيدة الذي يصف فيه حاله وهو يمشي بين أشجار روض:
"في مساءٍ كنتُ أمشي في المطر بين روضٍ كلُ ما فيهِ ازدَهَرْ
وغديرُ الماءِ في مَجرى الثرى يستميلُ السَمْعَ مِنْ قِبَلَ البَصَرْ"
ويسترسل في الوصف، إلى أن يتلبس ثوب الداعية في ختامها، ويتحدث بلغة خطابية زاعقة عن الغاية في إصلاح البشر، وإصلاح البشر غاية نبيلة بالطبع والدعوة إليها مطلوبة؛ لكنها عندما تأتي في ثنايا الشعر يجب عن أن تختلف اللغة عن الخطبة:
"وأتاني من بعيدٍ هاتفٌ: إنْ أردتَ العيشَ في ظِلِّ الشجرْ
أصلِحْ النفسَ، فما مِنْ واحةٍ مِثلَ صَفْوِ الروحِ من أىِّ كدَرْ
بيئةُ الأفنانِ ليست غايةً إنما الغاية إصلاحُ البشَرْ"
سِحرُ القاهِرة:
بالرغم من أن هذه القصيدة أيضًا تبدأ ببعض الصور المباشرة والنظم التقليدي، من مثل:
"سِرْ في البلادِ العامرة واقضِ الليالي الساهرة
واستنشقْ الفجرَ الجميلَ إذا يُطّلُ منائرَهْ
وعِشْ الجمالَ بحيثُ شئتَ مِنَ البلادِ الساحرهْ"
إلا أنه في المقاطع التالية منها يقدم رؤية فلسفية جميلة عن سر حبه للقاهرة، عاصمة مصر المحروسة، والتي وقع في سحرها مرغمًا. وهو هنا ينتهج نهجًا متسامحًا مع سلبياتها؛ على العكس من النظرة الصادمة، واللغة الغاضبة اللاذعة التي انتقد بها الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي -من قبل- صدمته في القاهرة، التي هرست براءته عندما أتاها فتىً ريفيًّا غريرًا مليئًا بالطيبة والأحلام؛ وذلك في ديوانه الأشهر (مدينة بلا قلب).
إذ أن "حازم مبروك" برغم أن المدينة لم تنعم عليه بحياة الرفاهية، ولم يجد فيها الجنة الموعودة؛ لكنه وقع في سحرها الذي يخترق الروح عنوة؛ فتأسر من فيها مثل (الندّاهة) التي تخطتف الشباب والفتيات، ولا تدعهم يعودون لديارهم؛ فيصبحوا أسرى لها، ومع مرور الوقت يصبحون مثل العبيد الذين يخدمونها:
"لا أدَّعي ترَفًا أو أنها إحدى الجِنانْ
أو أنَّ في طرُقاتها ذهبًا تلاحِقُهُ اليدانْ
أو أنَّ كلَّ رجالِها مَلَكٌ تنّزلَ مِنْ عَنانْ
لكنهُ شيءُ بها وكأنّهُ مِنْ فِعلِ جانْ
شىءٌ يسيرُ بروحِنا مِنْ غيرِ إذْنٍ أو قيودْ
ويطيرُ في أرجائها من غيرِ عزمٍ أن يعودْ
ويطيرُ فوقَ النيلِ في سحرِ المساءِ مع النشيدْ
وإذا بنا من حُبِّها صرنا لها مِثلَ العبيدْ".