القاهرة 16 مارس 2021 الساعة 08:42 ص
بقلم: حاتم عبدالهادى السيد
الغموض والغرائبية سمتان تبدوان جلياً؛ ونحن نقرأ العنوان السيمولوجى لرواية : (التبيعة) للروائية المصرية أسماء عبد الله متولي؛ كما يظهر جلال اللغة؛ وترميزها؛ عبر انتقالات المشاهد التى تتوالى فى سرعة وتتابع للعلاقة التى جمعت هدير بمهدى، ورحلتهما لشراء الأرض البعيدة في الصحراء والتي يصر مهدى على شرائها؛ بينما تتعجب هدير لموقفه حين قابل العم فرحان ليوقع عقد الأرض؛ ثم يعيدها إلى الفندق ويقفل راجعاً إلى الأرض التى انتظر أن يشتريها كحلم لديه؛ بينما كان هاتف زوجته يرن على هدير ليسألها عن مهدى الذى لم يرجع إلى زوجته وأولاده؛ وهو الذى أخبرها أنه يريد أن يجلس مع نفسه في هذه الأرض الخالية المهيبة.
إلى هنا تكون حكاية مهدى مع هدير وزوجته لتختفي نهائياً تلك العلاقة؛ لتبدأ حكاية جديدة لمهدى مع أهل القرية، قرية أجداده، المسكونة بالجان والعفاريت والسحر، عبر عالم المثيولوجيا المهيب .
إن الكاتبة – هنا - ترسم المشاهد باقتدار وتدلف إلى الأحداث بسهولة ويسر؛ كما تدخل بالشخصية إلى حلبة الأحداث في براعة فائقة، مع جمالية الأسلوب السردى عبر الرواية.
إنها حكاية "مهدي" الرجل الملغز؛ الأسطورى، يشترى الأرض ويستقل مركباً ليجول بين مزارع البوص، ثم يعود ليدخل البيت المهجور لينام غير آبه بتحذير صاحب المركب بعدم المبيت في هذا المكان، لكنه يعرف طريقه جيداً؛ أو أنها الذكرى للأم التى لا تموت كما كان يقول؛ ليبدأ طلَّسم الرواية من جديد؛ ولا يتكشف السرد إلا عن جماليات لإلغازيات متتابعة .
إنه مهدى بن ابن نوارة ابنة الحباك التى ماتت محروقة؛ وسافر مهدى ليترك المكان منذ زمن بعيد للدراسة في الخارج؛ ثم ها هو يعود ليحيى تلك الذكريات القديمة، وفى القرية يقابل "زيد" بن حليمة العمشاء الذى يعرفه -بل كل القرية تعرف مهدى- لتبدأ حواريات السرد؛ وتتكشف إلغازيات السرد السيميائى الساحر. إنها ذكريات الصبا يستعيدها، وحكايات عم بهلول الذى مات أهله كلهم مذبوحين؛ ولا يعرف أحد في الريف من الذى قتلهم؛ ومهدى العائد من الغربة يشترى الأرض من أقارب بهلول؛ ليعود ليسكن بين أهله وناسه كما يقول .
وبين نبات العاقول وحكايات العفاريت نرى مسعود -مجذوب القرية- وخلفه ابنته الناهدة الجميلة"عيدة"؛ وهو يتذكر زوجته التى جرفها التيار ووجدوا جثتها خلف الحشائش ممزقة، ثم لنشهد غياب مسعود لشهر كامل بعد موتها؛ ليعود وقد فقد عقله؛ ولم تفلح أحجبة شيوخ القرية، ولا قراءة القرآن لإعادته إلى صوابه، وكل ليلة تهتز الأرض وتتعالى الرياح وكأنها تريد اقتلاع البيت؛ وصراخ مسعود لعيدة بأن تنقذه من هؤلاء، لتستمر المأساة كل ليلة لعيدة المسكينة ووالدها مسعود، لكن مسعود حين رأى "مهدي" وجده يرتعد ويهذى ويغنى بكلمات ذات معنى، وهو يقول :
ذبحوا الرجال يا ولد واتوزع دم أبوك
قوم وشيل الحمل يا ولد وخد بتار أبوك
إنه السرد المثيولوجى الملغز، حكايات مرعبة تتكشف، وغبار للماضى يعدو، و"مهدي" العائد من الغربة يريد كشف حكاية موت نوارة أمه، وطلاسم وأحاجى، وعيدة ابنة مسعود التى تتعلق به منذ رأته يصطدم بها ليلاً ليقول لها:" أنا أيضاً لا أنام، فينصرف لتتجدد معزوفات الحب في قلبها؛لهذا الوافد الجديد".
وتبدأ إثارات السرد بعد ذلك بخروج عيدة مع صديقتها محاسن لرعى البقر، فتهاجمهم وحوش غريبة تشبه الذئاب، وتمزق البقرة إرباً وتأكل من لحمها بتلذذ ثم تختفى عيدة؛ لتبدأ ألسنة الناس تتسائل عم يحدث في:" قرية الجان والعفاريت " ومثيولوجيا " الحكايات الشعبية " في الريف المصرى المثير!.
إنها حكايات الجن والعفاريت : تظهر امرأة بساقى حمار لتخيف طفلاً، ورجل يركب ذئباً؛ وعيدة تحلم كل ليلة بطيف "مهدي" وهو يضاجعها بقوة بينما لا تشاهد سوى طيف دخان؛ وعالم مثيولوجى تضعه أمامنا الكاتبة أسماء؛ أو الراوى السيميائى العجيب،عبر قصص وحكايات مثيولوجية فو ق العادة، وفوق الخيال.
إنها قصص طرح النيل؛العاقول ؛ سبت النور ؛ حيث الأشجار المتدلية في الماء، وفتح المندل، ومثيولوجيا الخرافة،وحكايات الجان والعفاريت المتكررة والكثيرة، والتي تسحرك بجمالها وغموضها، ورعبها الشديد، كما تنساب دون تكلف عبر عالم السرد الغرائبى المدهش؛ واللغة التى تطوع لتظهر جماليات السرد؛ ومصداقته، وفطريته، وعمقه كذلك .
ثم تجىء حكاية غزالة زوجة عبدالغفور ؛وهى امرأة طويلة جدا، تزوجت عبدالغفور وطلقها ليلة الدخلة لكنها حملت توأماً فأعادها لعصمته،وهى التى تحرث وتحصد دون الحاجة إلى حمار لطولها الفارع جداً، وتتوالى حكايات ( قرية الجبل ) المدهشة والمثبرة؛ والمرعبة والمخيفة كذلك .
إنها مثيولوجيا السحروالتعاويذ تسردها لنا الكاتبة ببراعة لتحيلنا إلى عالم السحر والخيال، والجمال عبر السرد المدهش والمثير،وكأننا في عالم الجن والعفاريت بحق، وعالم الإيروتيكا، والواقع السحرى لعلاقات بين المتخيل والواقع، فهى إيروتيكا الجان مع البشر، وعلاقات الحب والعشق عبر المخيال السيمولوجى البديع، وعبر فنتازيا الحكاية ومسرودياتها المدهشة.
هذا وترتق الكاتبة / الراوى العليم حكايتها بعدة مستويات للسرد ؛ وتُضَمِّن الأغانى الشعبية على لسان أبطال الرواية؛ لتحكم إدهاشية السرد، ولتعطى للسرد رونقاً وأفقاً جميلين عبر لغة تختال وتتخايل بالسيمياء، والسحر الممتد عبر أبنية ومعمار الرواية ومعانيها. إنها حكايات الصحراء والريف، أو قرية الريف التى تقع بجوار الجبل وتعبرها المثيولوجيا والحكايات الشعبية.
ثم تظهر في النهاية إلغازية العنوان الغامض للرواية :( التبيعة ) عندما اختفت نوارة وسأل "مهدي" حليمة عن القاتل فأجابته أخيراً عن سؤاله : ( أمك كانت لها "تبيعة " - أى جنية تتبعها - تغار منها .. والتبيعة هذه تدعى أم الصبيان، وكانت تغار منها. وتطاردها في المنام واليقظة، امرأة عجوز بمخالب طويلة .. ولقد حملت نوارة سبع مرات، لكن حملها كان يسقط إلى أن قالت لها أم الصبيان : إن أردت الولد فلتذهبى خلف الجبل، هناك كهف في الجهة الغربية ستعرفينه جيداً لإنى سأكون في عينيك وقدميك؛ ولن يمسك ذئب، ولا هامة من سكان الجبل، وبعد دخولك الكهف ستعرفين ماذا أريد ؟ ثم لما رجعت كانت حاملاً ووجدوا على ظهرها آثار مخالب ليست آدمية،وظلت تنزف لمدة أسبوع أو يزيد،ثم عرفت إنها حامل بك يا "مهدي"، ومعها العقود السليمانية ..). ثم نشاهد مسعود المجذوب يتكلم : فقد رأى نوارة مع طائر:(التَّوَاه) ينعق : ياعيدة بصوت غريب؛ فتتبعه إلى دروب الضياع ) .
لقد رأينا حكايات سبت النور والجان والعفاريت ومهدى، ونوارة المستذئبة التى تأكل اللحم بعد أن حملت بمهدى من كائن ليس بشرياً، ورأينا فك المندل، وحكايات أخرى تزحم مسيرة السرد ، لكنها رواية الخوف،وأدب المثيولوجيا خلف القرية التى تحيط بها الجبال العتيقة، وكأنها قرية الأشباح وعوالمها، اقتطعتها لنا الكاتبة بمهابة ؛لتخش إلى آفاق السرد السيميائى الساحر، الغريب والمدهش كذلك .
ثم تجىء النهاية الفنتازية في اهتزاز الجبل، حيث يهرع الجميع، الكل ينتظر السلخ، ثم تجىء الخاتمة : المجد لك سيدى.. وكأنها نهاية المثيولوجيا في عالم الرعب المثير لقرية العفاريت والجان خلف الجبل الممتد الشاهد على كل الحكايات، والذى يخفى الكثير، وتجىء لتدور من حوله، ومن بينه كل تلك الأساطير.
لقد نجحت الكاتبة / أسماء بإمتياز حتى آخر قطرة رهق في الرواية، واستطاعت بمهارة أن تقدم: "رواية الرعب" عبر المثيولوجيا؛ لتظهر المجتمع البشرى بأحلامه وخرافاته ودسائسه وطيبته، عبر حكاية طويلة، بدأتها بغرائبية وغموض، لتنهها بغرائبية، ومتواليات للغرابة تظهر عالم الواقع الغريب، لقرية في أعماق الريف؛ وبين الجبل، في الصحراء؛ تنتهبها الحكايات، وتتصارع فيها القيم، وتختلط العوالم، وكأنها أهوال القيامة، أو أهوال الجحيم؛ عبر الواقع السيميائى، والسرد المكتنز لراوٍ يجيد سبك الحكاية، وردفها بغناء شعبى، ومثيولوجيا الحكى، لتخرج لنا :"رواية الرعب" لنقف أمام أنفسنا لنسأل عن اليقين؛ ولنقول : الملك لله، وهذا عالم البشر عبر صراع الحياة، والأقاويل، الكل ينهش لحم أخيه، وتظل الحكاية هى الأفق الذى يعلو الخيال.