القاهرة 23 فبراير 2021 الساعة 08:37 ص
بقلم: سماح ممدوح حسن
لن تموت القضية ولو بعد ألف ألف عام، إن كان وراءها كُتّاب أصحاب مشروع. ومن ضمن هؤلاء الكاتب الفلسطيني "يحيى يخلف" وروايته "اليد الدافئة". في بداية قراءة الرواية، سنحسبها على القص العاطفي أو الرومانسي حتى، فتبدأ الرواية بالحكي عن البطل "أحمد" الموظف البالغ 56 عامًا ومع ذلك يتقدم للمعاش المبكر من وظيفته، وبعدما أحيل إلى التقاعد، سوف يعاني مبكرًا من كل السأم والملل الذي يعاني منه كل من يظل طوال عمره يعمل وفجأة أصبح لا يعمل.
ماتت زوجته قبل أعوام، وتزوجت ابنته الوحيدة وسافرت خارج البلاد، وظل وحيدًا ينتظر إسدال الستار على مشهد حياته الأخير. لكن الحياة خالفت ظنونه وخططه، وأتت له بالحياة من أولها على عكس المتوقع. في هذه الجزئية من الرواية سيشعر القارئ بما يسرده البطل من جفاف الحياة بعد الوحدة، لكنه سيسعد معه أيضًا مرة أخرى ويشعر بتدفق روح الشباب بعدما يعيش "أحمد" قصة حب كأنه شاب في الثلاثين مع "نرمين" أو كما لقبّها باليد الدافئة. المرأة التي تُعنى بقضايا حقوق الإنسان وحقوق الأسرى الفلسطينيين. كل هذه المشاهد العاطفية سواء الشفقة على حال "أحمد" المتقاعد، كما هو مصير الكثيرين، ثم الفرح معه بعد الوقوع في الحب، أو بعد الرحمة من جُب الوحدة، كل ذلك ما هو إلا الإطار الأول للرواية، لكن المشروع الأصلي للرواية هو(الوطن) فلسطين. وذلك عن طريق معايشة وتسليط الضوء على العديد من القضايا الفلسطينية المهمة. والتي سنعيشها مع البطل وأول هذه القضايا هي:
المناطق العسكرية داخل فلسطين: سوف نتعرّف على هذه القضية عندما نقرأ كيف أن "أحمد" الذي يمتلك قطعة أرض زراعية، في إحدى المناطق ولا يستطيع الوصول إليها، وذلك بعدما أعلن الكيان الصهيوني أن هذه منطقة عسكرية ممنوع العبور إليها، وإذا حدث يكون ذلك بشق الأنفس من كثرة الحواجز الخراسانية ونقاط التفتيش التي تنتهك كرامة الفلسطينيين أصحاب الأرض والتعنت لمنعهم من المرور، حتى يكره صاحب الأرض أرضه ويتركها. وهنا صوّر "يحيى يخلف" على لسان بطل الرواية، كيف أن الصهاينة يضربون ويعذبون من يحاول المرور إلى أرضه، وذلك عندما حاول الوصول إلى أرضه بصحبة رفاقه، وبإلحاح من صديقه "أبو الخير" عاشق الأرض والزراعة. وكانت ترافقهم الشابة اليابانية "القاموس" صديقة شقيق نرمين، وعندما كانت اليابانية تصور انتهاكات الجيش الصهيوني، منعتها نرمين وحذرتها من إن هم رأوها سوف يعتقلون جميعًا. وقد كانت الفتاة مهتمة بتجميع مادة عن الاحتلال الإسرائيلي وإرسالها إلى الصحف اليابانية.
الإفراج عن الأسرى والإفراج عن جثث الشهداء: تلك هي القضية الثانية والأشد تأثيرًا فيما عرض "يخلف" بالرواية. فالسيدة التي تحيك الملابس طوال الليل "أم جليل" جارة بطل الرواية، والتي اكتست بالحزن، عاشت طويلا تركض، وتتوسل، لتتسلم جثمان ابنها الذي استشهد في إحدى المظاهرات ضد الصهاينة. الذين تعنتوا أكثر واحتفظوا بجثة ابنها داخل إحدى ثلاجات الموتى الباردة، كنوع من الإذلال والضغط على الفلسطينيين. ولم يرضوا بالإفراج عن جثة ابنها إلا تحت ضغط المظاهرات، وحتى هذا الإفراج عن الجثمان كان مشروطا بشروط مهينة، وكانت تلك هي المفاوضات التي خاضتها "نرمين، اليد الدافئة" وبالفعل تسلمت السيدة الجثمان لكن بشرط ألا يحضر الدفن أكثر من خمسة أشخاص ومن دون أي إعلام أو تصوير.
أيضا "مقابر الأرقام" والتي شيدها الصهاينة خصيصا إمعانا في ذل الفلسطينيين، وذلك عندما كانوا يدفنون في تلك المقابر جثامين الشهداء فقط بالأرقام، دون أن يكتبوا الأسماء حتى لا يزورهم أهاليهم. "مقابر الأرقام" تلك المقابر القريبة من الأرض الزراعية التي يملكها البطل مما أتاح له حضور والاشتراك في تلك المجهودات التي يقوم بها شباب تبرعوا لنقل رفات وعظام شهداء تلك المقبرة لدفنهم في مقابر ذويهم، حتى يتسنى لهم زيارتهم، خاصة بعدما غمرت المياه تلك المقابر وبعثرت ما فيها من عظام ورفات.
في فلسطين الحياة تستمر مهما حدث: ضمن المشهد الرئيس في الأخبار اليومية، أخبار المظاهرات والاحتجاجات الفلسطينية ضد العدو الصهيوني، وهي الصورة التي لم تخل منها الرواية. يوميّا تكون هناك مظاهرات واحتجاجات، ويوميّا هناك جرحى وشهداء، ويوميّا هناك تشييع لجثامين هؤلاء الشهداء ثم يعود الناس لحب الحياة مرة أخرى، يزرعون الورود، يجلسون على المقاهي، يديرون أعمالهم. تمامًا كما كان يفعل أبو الخير صديق أحمد الذي اختفى لأيام، ليظهر بعدها حاملًا خيرات ما زرعت يداه في الأرض. وفى الأرض أيضا تقام ولائم الأصدقاء يغنون ويرقصون ويتزوجون، حتى أن أحمد البطل المتقاعد اليائس في بداية الرواية، تزوج حبيبته نرمين في نهايتها، على الأرض التي تُزهق أرواحهم فداءها. الأرض التي تدفئ روح أهلها كما كانت يد نرمين تدفئ قلب أحمد.
رواية داخل الرواية: وهذا هو أحد الأطر السردية في الرواية. فبعدما تقاعد "أحمد" بدأ يتفرغ لمشروع كتابة رواية لكنه لم يأخذ أي خطوة بالمشروع لانشغاله، لكن شيئًا فشيئًا، خاصة بعدما تعرف على "نرمين، اليد الدافئة" وبعدما تسلل عطرها إلى مساماته وخلاياه، حتى قبل أن يعرفها، عندما رآها في إحدى المقاهي الفاخرة، فُتحت شهيته للكتابة، وبدأ يسطر حكاية صديقة المهاجر "سمعان الناصري" وكانت تلك قضية أخرى للرواية، الفلسطينيون في المهجر.
الخيال والأسطورة: استخدم "يخلف" الأساطير في الرواية كثيرا، وهي الحكايات الشعبية المتوارثة، لكن بتصريف. فكانت شخصية جؤذر، الذي خرج من الأرض وأمر أبو الخير بزرعها، وتحريض أحمد أيضا على زراعتها. جؤذر الشخصية الخيالية التي لم يصدقها أحدا ممن حكى أبو الخير لهم، وهو نفس الجؤذر عندما غزله "سمعان الناصري" مع حكايات ألف ليلة وليلة، ويقدمها في مسرح حبيبته الصومالية "صوفي" في ألمانيا، والتي أسر بها لب الأوربيين.
ما بين فلسطين الحديثة والتقليدية: ترينا الرواية، كيف أن فلسطين ذلك البلد المحتل، لا يقف أهله عند التاريخ فقط، بل أننا سنرى مشاهد للمقاهي التراثية القديمة، والأسواق، والتي تقدم فيها (الشيشة) وبين تلك (الكافيهات) الحديثة التي يرتادها طبقة معينة من الشعب والأجانب على وجه الخصوص من هؤلاء الذين يعملون في منظمات الإغاثة والمنظمات الحقوقية، والتي تعرف أحمد بها على نرمين. أيضا الملابس، حيث يصف يحيى يخلف الملابس التي تختلف من الجينز إلى اللباس التقليدي.
ما بين انتصارات وانتكاسات ستظل فلسطين للعرب وللفلسطينيين، وسيظل العدو الصهيوني هو ألد الأعداء، وستظل القضية حية، وسيظل البشر فيها أحياء رغم كل المعوقات. هذا أهم ما بثته الرواية في أدمغة قارئيها. ولهذا كانت تسمى فلسطين، وصارت تسمى فلسطين، وسيظل اسمها فلسطين.