القاهرة 23 فبراير 2021 الساعة 08:55 ص
عاش الذكريات: صلاح صيام
في حياة كل مبدع ذكريات جميلة تبقى عالقة في الذاكرة لتذكرنا بكل ما هو جميل ورائع.. الشاعر الثائر "بابلو نيرودا" يقول عن المذكرات إنها تسجيل لصور فوتوغرافية؛ أما الذكريات فهي تسجيل لوحات تشكيلية من صنع فنان نحت الألم في قلبه الكثير..
في هذه السلسلة نحاول الغوص في أعماق المبدعين، نستخرج ذكرياتهم المحفورة في الذاكرة ونبحث عن الأشخاص الذين أثروا في حياتهم وصنعوا أشياءً لا تختفي بفعل الزمن.
واليوم موعدنا مع المبدعة السودانية "مناجاة الطيب" التي تتذكر:
في كثير من الأحيان تأخذنا الحياة وتجرفنا تيارات أحداثها المتسارعة بكل ما تحمله من مواقف قد تبدو في وقتها عصيبة وربما تأخذ فترة تطول أو تقصر، إلا أنها تمضي بخيرها وشرها فرحها وحزنها دعتها وشظفها كلها تصبح طية ذكرى، شئنا لها الحضور أو التناسي ولم نتوقف عندها كثيرًا وطوينا صفحتها، أم آنسنا ترديدها متباكين على ما حدث، وانتهينا إلى أسرها تكبلنا قوة الذاكرة التي قد تصبح لصاحبها وبالًا وقيدًا لا يمكن الفكاك منه إلا بمعجزة تمنحنا نعمة النسيان.. نسيان سلبياتها من ألم وحرمان تسبب فيها أناس قرباء أو غرباء، عندها فقط يمكن مواصلة العمر طال أم قصر. لا ندري فيه إلا كل جميل وطيب مما يبعث الحب والقبول.
بالأمس كنت صغيرة عمرًا وحجمًا أنظر إلى كفي وأقارنها بمن حولي.. لا أدري لماذا اتخذتها مقياسًا.. ربما لفكرة طرأت عليّ وقتها فكرة من وحي قصة وما أكثر القصص التي تدور في محور الجسد واستنباط دلالته.. كنت أحب القصص جميعها ولكن تستهويني قصص المغامرات التي تحل ألغازها بالعقل ومهارة الاستنتاج، كنت حينما أقرأ كتابًا أقرأه بطريقة مختلفة عن تلك التي يقرأ بها أقراني وربما من يكبروني سنًّا (إذا لم أتمسك بشيء من التواضع) كنت أرى فيه ما لم يكتب.. كنت أحس بأنفاس مؤلفه وضربات قلبه المتصاعدة كلما اقتضى المشهد ذلك، كنت أتابع أصابعه وهو يحركها في مهارة للإمساك بكل خيوط القصة والحرص على عدم إفلاتها متبعًا كل الأوامر التي تلقاها عن عقله لجمع شخصياته في خواتيم رسالته التي قصد إيصالها للقارىء.. كنت أستمتع جدا عندما تظبط توقعاتي لنهاية القصة، كل ذلك وأنا ابنة عشرة أعوام، كنت أصحو وأنام بشخصيات الروايات البوليسية وكانت وقتها في أوج شهرتها يتابعها الكثيرون ويتلهفون لنزولها للمكتبات، ففي وطني كنا نقدم القراءة على كل متطلبات الحياة.. (واليوم تبدل الحال للأسف) في تلك الفترة كنت مولعة بروايات الألغاز خاصة كتابات محمود سالم ومازلت حتى اليوم تأسرني مؤلفاته، فقد كنت أعيش معه الحدث متفاعلة مع أبطاله في حركاتهم وسكناتهم، تعلمت منه عبرهم قيم وأشياء كثيرة جعلت التفكير في خطواتي، يجب أن يكون أولا حتى أعرف موضع أقدامي حتى لا تذل عن جادة الطريق، لقد أثر الكاتب الذكي محمود سالم في شخصيتي لدرجة أنني كلما هممت بكتابة قصة استحضرت أسلوبه واستعرت بعض مواقفه الحاسمة مع الاجتهاد بأن أبرز شخصيتي أيضا وفي كل مرة أجد نفسي تلميذة داخل مدرسته التي أراها متفردة والتي تعلمت منها الكثير، فأنا لم أفكر لحظة بالسماح لتفكيري أن يعتبر شخصيات "المغامرون الخمسة" من نسج خيال المؤلف وهذه درجة من الاقناع لا يمتلكها إلا من ملك أدواته وأصدق قلمه ولمثله يجب أن ترفع القبعات.
من منظوري الشخصي أن الموهبة تولد مع الإنسان والقراءة تمهد له المسلك الذي يتخذه وامتلاكه ناصية الفكرة هي الخطوة التي تمنحه إذن الاحتراف وبعدها بعزمه سيكتب له الخلود وستتناقل الأجيال ما خطه؛ وهذه درجة قد يبلغها القلة كل قرن من الزمن وليس بالمستحيل بلوغها إذا ما سُعي لها.
وإذا ما أغلق المتطلع إليها إذنه عن محطمي النجاح مقللي شأن الإبداع الذين يرون بأن للحياة وجها واحدا يرتكز فقط على المأكل والمشرب، هؤلاء يجب عدم الالتفات إليهم قبل الانطلاق لأنهم هم حين يصل أولي العزم إلى النجاح تراهم أصحاب الإطراء الأسبق هم من ينطبق عليهم قول (الهزيمة يتيمة وللنصر ألف أب) وبتجربتي قابلت مثلهم كثر وما زلت أقابل من يرون الثقافة رفاهية زائدة في زمن المعاناة وسأمضي وسيمضي مثلي كل صاحب رسالة إلى هدفه.