القاهرة 14 فبراير 2021 الساعة 10:44 ص
بقلم: محمد علي
يعد فيلم "حظر تجول" من أبرز المشاركات المميزة في الدورة الثانية والأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، حتى أنه في مرتي العرض لم يكن هناك مكان فارغ في قاعة العرض، وذلك على الرغم من تداعيات انتشار فيروس كوفيد-19 واستمرار الحكومة المصرية في تطبيق الإجراءات الاحترازية التي تخص التباعد الاجتماعي والحد من التجمعات بصورة كبيرة.
لم يختلف أحد على أن حكومة الدكتور حازم الببلاوي كانت قد قامت بتطبيق حظر تجول المواطنين في الشهور الأخيرة من العام 2013 وذلك لفرض السيطرة الأمنية على الشارع المصري بعد عمليات الترهيب والتخريب التي لجأت لها جماعة الإخوان المسلمين المُنحلة بعد إزاحتهم عن السلطة، حينها بات على الجميع أن يلتزم منزله لساعات طويلة؛ وقتها يقول مؤلف الفيلم ومخرجه أمير رمسيس: شعرت حينذاك بماذا لو قُدر لي أن أجلس طوال الاثني عشرة ساعة -فترة الحظر- مع شخص أكره مجرد إلقاء التحية عليه أو حتى أن نلتقي صدفة؛ ماذا علي أن أفعل حينها، ما نوعية الحديث الذي سوف يدور بيننا؟!
كانت هذه الفكرة هي أساس الفيلم عندما بدأ في كتابة السيناريو والحوار في العام 2017 إلا أنها قد تغير فيها بعض الجوانب لتضم قضية أهم وأعمق تخص المجتمع المصري لكنها دائمًا وأبدًا مسكوت عنها وهي قضية التحرش ولكن من ناحية أكثر تعقيدًا وأشد جراءة وهي البيدوفيليا (الانجذاب جنسيًا نحو الأطفال). وبعد الانتهاء من الكتابة والشروع في تنفيذ الفيلم تأخر العرض لمدة تقارب الثلاث سنوات وذلك بسبب انشغال مخرج الفيلم في التحضير لمهرجان الجونة السينمائي لكونه أحد أهم الكوادر البارزين في المهرجان منذ نشأته.
• في يوم وليلة:
تبدأ الأحداث في إحدى مقرات البوليس وذلك للانتهاء من إجراءات الإفراج عن (فاتن – إلهام شاهين) وذلك بعد أن تم سجنها لمدة تُقارب العشرين عامًا على أثر قضية قتلها لزوجها. بعد الانتهاء تجد صعوبة في السفر لمحافظة الإسماعيلية وذلك بسبب فرض حظر التجول؛ لذلك يدعمها زوج بنتها (ليلي – أمينة خليل) والذي يقوم بدوره الممثل - أحمد مجدي - لتناول وجبة الغداء معًا وأن تحل ضيفة عليهم حتى الصباح على أن يقوم بتوصليها لمحطة القطار باكرًا. وفي المنزل وبعد الغداء يضطر الزوج للمغادرة إلي عمله في المستشفى حيث يظل بها حتي صباح اليوم التالي، ليترك الزوجة مع الأم في ليلة لم تكن ترغب الأخيرة في أن تعيش مثلها.
• أصل الحكاية:
كانت ليلى تعيش في جو أسري عادي ومألوف إلى أن قامت الأم - فاتن - بقتل الأب باستخدام سكينة بعد أن عادت من عملها ووجدته يقوم بتعرية ابنتها والتحرش بها، ولأن أفعالا مثل تلك لا تجد مُصدقًا عليها في مجتمعنا المُشبع بأفكار تعتبر سلوكا مثل هذا ضرب من ضروب الخيال وإن كان حقيقيًا فلا يجوز أن يتم التشهير عنه، أصبحت فاتن تواجه مصير السجن والإشاعات في وقت واحد، حيث بات حديث الشارع عن المرأة التي قد قتلت زوجها بعد أن أمسك بها وهي تخونه مع جارهم (الأستاذ يحيى والذي قام بدورة الفنان الفلسطيني كامل الباشا الحائز على جائزة أفضل ممثل من مهرجان البندقية السينمائي عن فيلم القضية رقم 23) والذي على الرغم من ظهور العديد من العلامات التي تؤكد على حبه لفاتن إلا أن السياق السردي للفيلم يؤكد على عدم وجود أي نوع من أنواع الخيانة الزوجية كانت قد حدثت بينهم فعلًا، وأن السبب والدافع الرئيس للقتل كان بسبب سوء سلوك الأب وانحرافه الجنسي. ومع كل ذلك ظلت ليلي تظن بأن القتل كان بسبب الخيانة وسعت فاتن بأن تحفظ السر طوال الليلة، حتى مع تزايد حدة الأحداث وتسارعها الذي ساعد في حدوث تقارب نوعًا ما فيما بينهم كما في مشهدي "تكدير فاتن لسوستة فوق السطوح بسبب الإزعاج، والسير في وقت الحظر والهروب من الأكمنة الشرطية وهم في طريقهم للمستشفى بعد توعك حالة - الطفلة الصغيرة ابنة ليلى - الصحية"؛ إلا أن ذلك لم يكن كافيًا بأن تبوح الأم بالسر للابنة.
• السيناريو والحوار:
من أهم الآليات التي ساعدت في ظهور الفيلم بهذا الشكل اللائق هو بالتأكيد القدرة الاحترافية التي ميزت الكتابة، فعلى الرغم من أن موضوع الفيلم شائك وحساس ويعد من الموضوعات التي لا يجب أن يتطرق إليها أحد لأنها بسبب خلل ما قد يحدث أثناء عملية الكتابة قد ينتج أضرار على أصحاب العمل أكثر بكثير من الهدف المرجو من الفكرة نفسها وهي وضع قيود على هؤلاء المتحرشين المصابين بالبيدوفيليا.
فاستطاع أمير رمسيس من خلال شخصيات ضئيلة للغاية أن يكتب قصة وسيناريو وحوار متماسكين في قالب سينمائي خال من الوعي الإرشادي أو الاستعلام بتقديم حلول تخص المشكلة؛ فقط قام بإلقاء الضوء عليها ومن ثم قام بصميم عمله في رسم وكتابة شخصيات من قلب الواقع منهم الكثير الذي قد تكون تلتقي بهم بشكل يومي في أي من الأماكن التي تذهب إليها. فلا وجود لتكلف أو اصطناع، فقط ممارسة لليلة من ليالي الحظر جمعت اثنين لا يوجد وفاق بينهما إلا أنهم يتبادلون أطراف الحديث بين اللحظة والأخرى تارة عن شيء يخص موضوع الأب وأخرى عن أحوال البلد وما باتت عليه وذلك من خلال الاشتباك الدائم بصوت الإعلامية لميس الحديدي والتي كانت الصوت والمنبر الإعلامي المميز حينها؛ وذلك إن دل على شيء فيدل على وعي صانع الفيلم بكيفية خلق مود سينمائي ابن اللحظة والزمن الذي يُحاكيهم.
وكذلك الحوار الذي جاء معبرًا عن الطبقة التي منها الشخصيات سواء كان ذلك في الانفعالات أو في الحديث فيما بينهم، فلا يوجد ما هو مبهم أو أعمق من أن يفهمه المُشاهد وذلك على أساس أن صانع الفيلم يرنو لشيء بعينه. فهو مطابق لما هو دائر في معظم البيوت المصرية.
• عبقرية الإخراج:
في أفلام مثل تلك التي تتبنى قضية معينة نجد المخرج يظل طوال الفيلم يُشير إلى ما الذي يقصده وكذلك لا يكل من تقديم حلول من خلال شخصيات لا وجود منطقي لها سوي أنها تظهر لتقول حكمة ما من المفترض أن تكون هي الحل الذي سيخلص المجتمع من مُعضلة تلك القضية، وكذلك أيضًا في تصوير عدد ضخم جدًا من المشاهد التي ترمز إلي قضيته تلك؛ وكل هذا لا يعبر عن كونه مخرج جيد أم لا على قدر ما هو يعبر عن الاستهلال وحب لفت الانتباه ليس إلا.
لذا كان من المميز في "حظر تجول" هو التزام أمير رمسيس بتقديم فيلم سينمائي خالص له قضيته التي يتبناها بالتأكيد لكنه يعبر عنها فيما هو لائق ومسموح سينمائيًا من خلال استخدام الأساليب الإخراجية المتنوعة في تضمين هذه القضية ضمن السياق/السرد السينمائي؛ فهنا على سبيل المثال لا الحصر لجأ رمسيس لاستخدام تقنية الفلاش باك في أوقات متفاوتة ليفصح عن سر الأم دون أن تتحدث فاتن عن شيء ودون أن يقدم مشاهد صارخة ليعبر عن بشاعة الاعتداء الجنسي وخاصةً بكون القضية هنا شديدة الحساسية.
وكذلك إحجام اللقطات وزوايا التصوير التي قد اختارها لم تسبب أي ضيق أو أن يتسلل للمُشاهد نوع من الملل خاصةً وأنها تدور بالكامل في مساحة ضيقة وشقة سكنية لا تتغير معالمها طوال الساعة ونصف مدة الفيلم.
والأهم هنا هو القدرة الاحترافية في إخراج أعلى قدرات فنية من الممثل حتى أن المُشاهد العادي يتماهى في علاقته بالشخصيات فلا ينجذب لأحد وينفر الآخر، فطوال مدة الفيلم وهو يقف على مسافة واحدة بينهم يتعاطف مع فاتن لأنها ظُلمت وأيضًا مع ليلى بكونها لا تعرف الحقيقة ويشعر بالحزن جراء خيبة سعيها في معرفتها. حتى أنه قد برهن على قدرته الجديرة بالاحترام في إدارة موقع التصوير وتحديدًا في إدارة الممثلين في ظهور بعضهم للقطات قصيرة إلا أنهم ظهروا وكأنهم من أبطال الفيلم.
بالطبع نجاح الفيلم على المستوى الفني السينمائي ليس بسبب رمسيس وحده وإنما هو مواصلة فيما بين صناع سينمائيين يقدرون ماهية الفيلم السينمائي وكيف عليه أن يكون حتى يُعرض على الشاشة الكبيرة، وهم تامر كروان في تلحين الموسيقي التصويرية للفيلم، مونتاج هبة عثمان، ومدير التصوير عمر أبو دومة.
ويعد الفيلم من أهم الأعمال السينمائية التي تم إنتاجها في العام الماضي على وجه الخصوص، ومن أفضل الأفلام التي أنتجتها السينما المصرية في السنوات الأخيرة.
والجدير بالذكر هنا هو أن الفيلم بات متوفرا رقميا على المنصة الترفيهية OSN.