القاهرة 10 فبراير 2021 الساعة 10:16 ص
بقلم: محمد جمال الروح
ربما يرحل الفنان بجسده عن هذه الدنيا لكن أعماله تظل وثيقة للخلود والبقاء بين الناس، رحل الفنان القدير عزت العلايلي بعد مسيرة إبداعية مشرفة امتدت لعشرات السنوات بين السينما والمسرح والتليفزيون، كان نموذجا للفنان الصادق صاحب الوعي والثقافة العميقة والتجربة الصادقة، لم يفارق يوما همه الفني همه الوطني والإنساني.
ولد عزت العلايلي بحي باب الشعرية عام 1934، ونشأ فنيا على مسرحيات يوسف بك وهبي ونجيب الريحاني، ومنذ أن بدأ وعيه في التشكل نما في وجدانه الحس الوطني حتى أنه أراد أن ينضم للفدائيين فقبض عليه وسجن سنة 1954 رغم إيمانه الصادق بالتجربة الناصرية.
الحس الرجولي الغالب على معظم الشخصيات التي تقمصها عزت العلايلى نابع من نشأته وانعكاسا لشخصيته التي صقلتها مصاعب الحياة؛ فبعد أن حصل على بكالوريوس المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1960، واجه ظروفا بالغة الصعوبة في بداية مشواره بسبب رعايته لإخوته بعد وفاة والدهم.
لم يكن ظهوره السينمائي السينما الأول إلا في فيلم "رسالة من امرأة مجهولة" إخراج صلاح أبو سيف عام 1962 ليسطع بعدها نجما مسرحيا وسينمائيا بعد بدايته التليفزيونية التي أسس فيها مسرح التليفزيون.
تجاوزت أفلام العلايلي 130 فيلما كان من بينها أعمالا شكلت وجدان وشكل السينما المصرية وأصبحت من أهم كلاسيكياتها، مثل فيلم الأرض، السقا مات، أهل القمة، بستان الدم، زائر الفجر، على من نطلق الرصاص، الطوق والأسورة، وقفص الحريم، وغيرهم الكثير، نحاول في هذه السطور أن نقدم ما يشبه البانوراما السينمائية لهذه الأعمال الكبيرة.
عبد الهادي في الأرض:
شارك عزت العلايلي في فيلم الأرض (عن قصة عبد الرحمن الشرقاوي) أحد أهم أفلام السينما المصرية التي استعرضت معاناة الفلاح المصري وارتباطه بأرضه، يلعب عزت العلايلي أحد أهم أدواره في هذا الفيلم، يجسد بصدق شديد دور الفلاح النقي المتمرد الذي يتنفس نخوة وشهامة وعزة رغم ضيق الحال، عبد الهادي هو النبتة القوية التي خرجت من رحم الأرض تواجه الظمأ والظلم بشجاعه فطرية، عبد الهادي لم يخن أو يتلوث أو يبيع مثل البقية، كان امتدادا إنسانيا لبطل الفيلم "محمد أبو سويلم" الذي جسد بدوره صورة صادقة للفلاح المصري الأصيل حين يتجرع الظلم والقهر ويروي الأرض بدمائه.
كان أداء وحضور عزت العلايلى واضحا بين هؤلاء النجوم الكبار أمثال المليجي، وعبد الرحمن الخميسي، ويحيى شاهين، وعبد الوارث عسر، هؤلاء الذين رسموا مع يوسف شاهين ملحمة "الأرض".
في ثاني تجربة مع يوسف شاهين يقدم عام 1971 فيلم "الاختيار"، ورغم صعوبة الفيلم واختلافه عن ذائقة الجماهير حينها، إلا أن هذا الفيلم يحتفظ بمكانة كبيرة بين الأفلام التى طورت شكل السينما المصرية. وبعدها بثماني سنوات يعود عزت العلايلي ويقدم مع يوسف شاهين تحفته "إسكندرية ليه" وسط كوكبة كبيرة صنعت فيلما مهما ومميزا.
المعلم شوشة وزائر الفجر:
شخصية المعلم شوشة في فيلم "السقا مات" هي أهم شخصية لعبها عزت العلايلي في تاريخه الفني، تحتاج تلك الشخصية القادمة من عمل أدبي كبير إلى وعي وعمق فلسفي وأداء مركب يقدم بشكل لا يتقاطع مع بساطة وتكوين رجل فطري يمتهن مهنة السقاية وحمل قربة الماء، المعلم شوشة يأخد منه الموت كل من أحب الزوجة والصديق والأمل ويتركه وحيدا في هذه الحياة معلقا بين اليأس والخوف، نجح العلايلي بقدراته الأدائية فى تجسيد الصراع النفسي الذي يعترك داخل شخصية تعاني عذابات الفراق والفقد، في آخر الفيلم يقدم العلايلي مشهدا تاريخيا حين ينادي الموت داخل المقابر ويدعوه للمواجهة بعد موت الصديق شحاته أفندي.
فيلم "السقا مات" إخراج صلاح أبو سيف من أهم روائع السينما المصرية وأكثرها عمقا واحتكاكا بفلسفة الموت والحياة.
ومن الأفلام المهمة التي قام العلايلي ببطولتها فيلم "زائر الفجر" للمخرج الراحل ممدوح شكري الذي رحل حزنا وكمدا حين منع فلمه من العرض، وقد لعب عزت العلايلى دور حسن وكيل النياية الذي سيصطدم بحقائق كثيرة أثناء بحثه في قضية مقتل الصحفية نادية الشريف، وتكمن أهمية هذا الفيلم الطليعى الجريء أنه فتح الباب أمام سينما السبعينيات لتقدم أفلاما تعري المجتمع وتفضح المفسدين مثل أفلام "المذنبون" و"على من نطلق الرصاص" الذي شارك فيه عزت العلايلي أيضا.
أهل القمة:
فيلم "أهل القمة" من إخراج على بدرخان عام 1981 من أهم الأفلام التي تناولت مرحلة الانفتاح الاقتصادي وكوارثه الأخلاقية؛ فيتعرض الفيلم للتحول الاجتماعي الذي أوجدته الظروف الاقتصادية الجديدة في الشارع المصري المعاصر، حيث الصعود المسعور لطبقة اللصوص والانتهازيين، ويلعب عزت العلايلي باقتدار دور محمد فوزي الضابط الشريف الذي يصطدم باختلال المعايير وتحول المجتمع.
في نفس العام يقوم العلايلي بدور سعد بن أبي وقاص في الفيلم العراقى "القادسية" بطولة سعاد حسني، ومن إخراج صلاح أبو سيف.
شارك العلايلي عام 1986 بأكثر من عشرة أفلام سينمائية كان أبرزها الأفلام المأخوذة عن أعمال أدبية، مثل فيلمه العظيم "الطوق والأسورة" عن رواية يحيى الطاهر عبد الله وإخراج خيري بشارة، و"قفص الحريم" إخراج حسين كمال عن قصة مجيد طوبيا، وفيلم "التوت والنبوت" إخراج نيازي مصطفى عن قصة الأديب العالمي نجيب محفوظ.
تعاون عزت العلايلي مع معظم المخرجين المصريين مثل أشرف فهمي فى فيلم "المجهول" و"بستان الدم"، والمخرج على عبد الخالق في فيلم "بئر الخيانة"، ومحمد راضي في "الإنس والجن"، وأحمد يحيى في "الصبر فى الملاحات"، وإنعام محمد علي في الفيلم الحربي الكبير "الطريق إلى إيلات".
عبد الموجود المصري:
هناك نظريات كثيرة تتحدث عن أداء الممثل تدعو بعضها لضرورة امتزاج الشخصية التي يلعبها الممثل بالعالم الداخلي له؛ حيث تسكن الشخصية كل خلية في جسده بعد أن تأثر وجدانه وتحكم علاقته بالموجودات حوله. ولو ضربنا مثل لهذه النظرية لن نجد أفضل من شخصية "عبد الموجود" التي قدمها عزت العلايلي في فيلم "المواطن مصري" الفيلم الذي ينتصر صراحة للمرحلة الناصرية التي أنصفت الفلاح المصري وأعطته قدرا من الكرامة، الفيلم عن رواية "الحرب في بر مصر" للروائي يوسف القعيد، قدم عزت العلايلي درسا في تقمص وفهم الشخصية لابد أن تستفيد منه الأجيال القادمة؛ حيث يجسد العلايلي بعبقرية شخصية وضعتها الأيام الصعبة تحت وطأة الذل والعوز والانسحاق، ليس هذا فحسب بل عليه أن يختار بين الابن والأرض، حين ينفتح الصندوق ويرى ابنه الشهيد مسجي في دمائه، وتقترب الكاميرا من قسماته الباكية وتتجسد على وجهه عذابات الدنيا، مشاعر مختلطة من الحزن والقهر والندم بل والخجل من مواجهة ابنه الراقد في صندوق خشبي مغطى بالدماء.. محنة إنسانية كبيرة عبر عنها العلايلي بأداء فريد لم ينافسه فيه إلا عمر الشريف الذي وجد نفسه في مباراة تمثيلية كبيرة مع العلايلي.
رحم الله عزت العلايلي الفنان المصري الأصيل الذي أعطانا فنا صادقا وإبداعا أصيلا ما زال باقيا.