القاهرة 09 فبراير 2021 الساعة 04:01 م
بقلم: طلعت رضوان
من بين الموضوعات التى اهتـمّ بها الاقتصاديون العالميون، موضوع الدول الاستعمارية الكبرى، التى سيطرت على اقتصاديات الكثيرمن الدول، التي تدور في (فلك الرأسمالية العالمية) لنهب موارد الشعوب، على حد تعبيرعالم الاقتصاد المصرى الكبير (سميرأمين).. ومن بين هذه الكتب كتاب (نهب العالم- تأليف بييرجاليه- ترجمة: الهيثم الأيوبي- عن دارالكاتب العربي) وكتاب (نهب الفقراء- تأليف: بييرجاليه- ترجمة بدرالرفاعى- عن المشروع القومى للترجمة) وكــُـتب كثيرة أخرى عن نفس الموضوع.
هذا الموضوع المعقد والشائك، نقله المبدع الكبير(عبد الرحمن منيف) من مجال الاقتصاد (بأرقامه وإحصائياته الباردة التى لا يحتملها إلاّ المتخصصون) إلى مجال الإبداع الأدبى.. وذلك فى روايته (سباق المسافات الطويلة) الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر- عام1987- ط3).
تدورأحداث الرواية حول تجمع عدد من الباحثين من جنسيات مختلفة، فى أحد الفنادق الكبيرة بمدينة بيروت.. وهؤلاء الباحثون يعملون تحت إشراف اثنيْن من كبار موظفي البيت الأبيض الأمريكى.. والهدف من هذا التجمع هوتعاونهم.. وتعاون بلادهم على إسقاط حاكم دولة نفطية كبيرة فى الشرق الأوسط (غرب آسيا) والتمهيد لجلوس حاكم آخرأكثرعمالة وتبعية للإدارة الأمريكية.
وداخل هذا المحور فإنّ المبدع أظهرالصراع الدائربين القوى الاستعمارية الكبيرة، والقوى الاستعمارية الصغيرة، التى تراجعتْ للخلف بعد الحرب العالمية الثانية.. وقد عبــّـر مندوب بريطانيا عن هذا الصراع، بأنْ أفرغ شحنة من الغضب فى أحد الاجتماعات، حيث قال: "إنّ الأمريكيين حمقى.. ومجرد خنازيرفي رقابهم أطواق من الذهب" وبعد أنْ أفرغ تلك الشحنة "شعر بالفخر لأنه ليس أمريكيًّا" والمبدع لم يــُـفرّق بين الاستعمارالجديد والقديم، خاصة أنّ بريطانيا كانت من أشهر دول الاستعمار القديم، لذلك كان منيف موفقــًـا عندما ذكــّـرالقارىء بواحد من عتاة الاستعماريين الإنجليز (لورانس) الذي نصح كل من يفكر في غزو الشرق، أنْ يترك على الساحل كل ما هو بريطاني.. وأنْ يتبنى العادات الشرقية، وبهذا (يمكن للأوروبيين أنْ يتغلبوا على الشرقيين) وقال "النصر مع الإخلال بالوعد أفضل من الهزيمة" (ص93، 275).
ونظرًا لوعى المبدع بدور الاستعمار في توظيف الدين، لتحقيق أهدافهم فى نهب موارد الشعوب، لذلك جعل مندوب بريطانيا يــُـحرّض المشتركين معه بالاهتمام بالدين.. وقال لهم: لقد لعب الدين على مدار التاريخ، دورًا في اتباع الأساليب الملتوية.. واللجوء إلى الغموض.. والأهم (خلق الشخصية المتناقضة) وأضاف أنّ الدين ساعدنا فى (خلق قواعد للتعامل مع دول الشرق).. وأضاف بأنه بدأ تكوين منظمة من المتطرفين دينيــًـا، المعروفين بشدة تعصبهم للدين.. وتطبيقه تطبيقــًـا حرفيـًّا.. كما كان في أول الدعوة الإسلامية.. وهذه المنظمة كلــّـفتنا أموالا كثيرة.. ونصحناهم بتكثيف جهودهم داخل المساجد وفي الجامعات.. وأخرج لزملائه كتابــًـا بعنوان (تأثيرالحضارة الفارسية على الحياة الاجتماعية والدينية في الشرق الأوسط).
وعندما قال له رئيس البعثة الأمريكي، إنّ الوضع تغير لأنّ دول الشرق فيها أحزاب ومؤسسات، ردّ عليه قائلا: اطمئن، فكل هذه الأشكال الظاهرية لا تزيد عن أنْ تكون ديكورًا.. (وهناك دائمــًـا الحاكم الفرد الذي يفرض ما يريد.. وعلى الآخرين الطاعة والتنفيذ).
كان ضمن البعثة التي تــُـخطط لتدبير المؤامرات.. والإطاحة ببعض الأنظمة.. وإحلال غيرها لتحقيق أهداف الاستعمار، مواطن فارسي اسمه (أشرف آية الله) رئيس الوفد الإيراني، الذي شرح لباقي الزملاء المجتمعين فى بيروت، الأوضاع الداخلية فى إيران. والمبدع طوال صفحات الرواية، كلــّـما جاء الحديث مع الوفد الإيراني، يوحي بالفترة السابقة على سقوط حكم شاه إيران.. وقال: لقد اتفقنا في بلدنا على كل شيء.. وسوف تستقيل الحكومة بهدوء.. وسوف يتم تشكيل حكومة جديدة.. وبعدها سنعود إلى المفاوضات من جديد.. ونستطيع تقديم مكاسب واضحة للحكومة الجديدة، التابعة لنا.. وسوف تــُـنفذ كل طلباتنا.
أثناء هذا الحديث تذكر مستر (بيتر ماكدونالد) بطل الرواية.. والعضو البريطاني في المؤامرة، عندما كان في أحد معسكرات النازي.. وأنه الآن يسير في أمان بعد التخلص من هتلر.. وأصبح الطريق مـُـمهدًا لعصر جديد.. وكان تعليقه على كلام رئيس الوفد الإيرانى: أنا لستُ قديســًـا.. ولكنني لا أقبل أنْ أكون غبيــًّا بهذا المقدارالذي تفترضه لندن أو تريده.. ومع هذا وأيــًـا كانت النتيجة، أتساءل بمرارة: هل ما قلته للوفد الإيراني (عباس وميرزا وأشرف آية الله) بخصوص الجماعات الدينية أواليسارية، التي تعمل معي.. هو الذي دعا لندن إلى التخوف.. وتشديد الإجراءات؟ وهل عباس أو أحد غيره ضمن الوفد الإيراني، من الجماعات التي يتعاون أعضاؤها معنا، يكون قد نقل شيئــًـا إلى لندن.. وماذا إذا كان للندن (موقف مختلف عن موقفى تجاه المفاوضات، حول إسقاط الرجل العجوز؟)
الرجل العجوز هو الاسم الحركي المتفق عليه بين البعثة التى تــُـخطط لإسقاط نظام (شاه إيران).. والتمهيد لوصول الحاكم الجديد.. وفي هذا المونولوج الذي أدلى فيه مستر (بيتر ماكدونالد) عن التناقض بينه.. وبين رؤسائه في الحكومة البريطانية، مؤشرغاية في الأهمية عن المراجعات التى يــُـبديها الموظفون الكبار في الأجهزة المخابراتية.. وأنهم- بسبب خبرتهم- يــُـقدمون النصائح والمقترحات، من أجل نجاح مخططهم في نهب الشعوب، من خلال (تغييرالحــُـكام) وأنّ الحاكم الذي يــُـظهر بعض التمرد أو حتى الاختلاف مع القوى الاستعمارية، عليه أنْ يرحل، بعد أنْ يكون قد أدى مهمته.. وذلك بالرغم من أنه كان الحاكم المطيع لأسياده.. ولعلّ المبدع هنا يقصد الإشارة إلى سقوط نظام (شاه إيران) وتخلى أمريكا عنه، بعد كل الخدمات التى أداها لصالح المستثمرين الأمريكان (منذ الانقلاب ضد د. مـُـصـدّق بعد تأميم آبار البترول الإيراني- نموذجــًـا) ليكون العائد لإيران وليس للأجانب) ولعلّ القارىء أنْ يكون قد لاحظ اسم عائلة (بيتر) أى (ماكدونالد) وهو الاسم الشهير لمؤسس مطاعم الوجبات السريعة على مستوى العالم، والتى بدأتْ في مايو1940.. ومقرها الرئيس في شيكاغو.. وأعتقد أنّ المبدع الكبير عبد الرحمن منيف، لم يضع هذا الاسم اعتباطيــًـا.. وإنما قصد به أنّ كبير أسرة (ماكدونالد) الذي غزا العالم بمطاعمه، فإنّ أحد أحفاده يقوموا بدور أكبر، ليس الغزو بالمطاعم.. وإنما بالانقلابات.. وتغيير الحكام.. وكأنهم مثل (عرائس المارونيت).
فى الدولة الشرقية التى اجتمع فيها مستر ماكدونالد مع زملائه، جاء ضابط بوليس من البلد..وقابل بيترماكدونالد وسأله عن الأسباب التى دعته إلى المجيء لبلده.. ولماذا زار معمل السكر.. ولماذا يتردّد كثيرًا على الجزء الشمالي المطل على الميناء؟
اندهش مستر ماكدونالد.. وحـدّث نفسه قائلا: لم أتصوّر أنّ أحدًا- مثل هذا الضابط أو غيره- قادر على أنْ يوجه إلىّ هذه الأسئلة.. وإنى مضطرللإجابة عليها.. وشعرتُ بدمي يفور.. ونبضات قلبى تــُـسرع، ليس خوفــًـا.. وإنما لأنّ الإهانة كانت أكبر من أنْ أحتملها.
وهكذا فإنّ منيف بأسلوب فن الايحاء، الذي هو أكثر فصاحة من المباشرة، أشار إلى أنّ هذا الشخص الاستعماري، يعتبر أنّ الأسئلة المشروعة من الضابط الوطني، عن سبب وجوده في وطنه.. وعن سبب تردده على أماكن معينة، أنه قد تعرّض للإهانة.. وهذا المشهد قمة في الغرور من أحد (صغار المستعمرين) فماذا يكون غرورالكبار؟
ووصل غرور مستر ماكدونالد لدرجة أنْ قال للضابط اللبناني: هل تتصور أني سأجيب على أسئلتك؟ نظر الضابط إليه.. وقد تملــّـكته الدهشة والحيرة.. ولكن مستر ماكدونالد تجاهله تمامــًـا وأضاف: ألا تعلم أنّ الدبلوماسيين غيرمضطرين أبدًا إلى الاجابة، حتى ولو كنتَ تسألني عن صحتي.. وهنا فإنّ المبدع لم يكتف بآفة غرور ممثلي الاستعمار (تحت ستار الدبلوماسية) وإنما أضاف إلى الغرور آفة أخرى هي (الغطرسة وقلة الذوق).
شعر الضابط بالإحباط والخجل.. وعندما هـمّ بالانصراف، أوقفه مستر ماكدونالد وقال له بحدة: أرجوأنْ تنقل لرؤسائك ردى على أسئلتك، بكل دقة.. وهكذا فإنّ المبدع- للمرة الثالثة- تعمـّـد بأسلوب الايحاء الأدبى- الإشارة إلى مدى هيمنة وطغيان الدول الاستعمارية، على الدول التى تدورفى فلكها..هيمنة وصلتْ لدرجة الاستهانة برؤساء الدول التابعة، بل واحتقارهم..وعندما لم يرد الضابط اللبنانى عليه، استوقفه ماكدونالد وقال له بنفس الحدة: هل ستــُـنفذ ما قلته لك؟ فاضطرالضابط إلى أنْ يقول له باستكانه: نعم سأفعل.
وحدث تطوردراماتيكي لم يتوقعه مسترماكدونالد، حيث إنه عندما طلب من عامل التليفون بالفندق، أنْ يصله بسفارته، فإنّ العامل فى كل مرة يقول له: حاضر..ولايفعل، ثـمّ كان التطورالثانى عندما جاءه ثلاثة أشخاص، أحدهم يعرف اللغة الإنجليزية معرفة جيدة..وأبلغوه بضرورة مغادرة وطنهم فورًا.. وحين أظهراحتجاجه ، قال له أحدهم بلهجة تنم عن العداء الشديد: الأفضل أنْ تركب سيارتك بهدوء.. وتغادروطننا، أما لوأبديت المماطلة، فسوف نتصرف معك بطريقة أخرى.. هزّ ماكدونالد رأسه بسخرية، فقال له أحد الثلاثة: سوف نحملك ونضعك فى السيارة بالقوة..وأضاف: هل تختار المغادرة بطريتنا؟ أم تغادربهدوء؟ استشعرماكدونالد- بحسه المخابراتى- أنّ أمرًا لايفهمه- قد حدث بين وطنه.. وبين تلك الدولة الشرقية.. وقال لنفسه: لاتــُـعرّض نفسك يا بيتر لامتحان من هذا النوع مع هؤلاء الشرقيين..ولكى يــُـطمئن نفسه همس بصوت مضغوم..وبغطرسة وقلة حياء: إنهم فى لحظات العناد أغبى من الحيوانات..وأقسى من الحجارة..وبعد أنْ أستردّ أنفاسه قال لهم: هل لديكم أمرمكتوب يــُـجبرنى على المغادرة؟ فقال له أحد الثلاثة: مستر ماكدونالد، نحن نعرف كل شيىء عنك.. وعن مهمتك.. ومن الأفضل أنْ تتوقف عن المجادلة.. وأنْ تــُـهيىء نفسك للسفر في أسرع وقت، سأله: دون أمرمكتوب؟ ردّ عليه: ودون مناقشة من أى نوع.
توقع بيترأنّ أمرًا خطيرًا حدث بين وطنه، مع هذا الوطن الشرقى.. وشعر بالإهانة. وتساءل: هل هى النهاية؟ وماذا حدث لكي يتصرّفوا معى بهذه الطريقة المهينة.. هل أصبحوا لايخشون هيبة دولتنا، كما كانوا طوال عدة سنين؟ وهل أنا تصرّفتُ بطريقة أثارتْ شكوكهم؟ إنّ كل ما أستطيع قوله هو أنّ حربهم ضد بريطانيا، وضد كل ما هوبريطاني قد بدأتْ.. وأضاف بأسى: إنّ هؤلاء الحمقى لايعلمون ولا يــُـدركون أنّ بيترماكدونالد يعنى شيئــًـا مهمــًـا لبريطانيا العظمى (من ص348- 352).. وهمس لنفسه: هل دول الشرق تتنكرلنا، بعد أنْ صارتْ قــِـبلتهم أمريكا؟
وبغض النظرعن (القــِـبلة الأمريكية) فإنني أعتقد أنّ منيف فى الفصول الأخيرة من روايته البديعة، أراد توصيل رسالة للقارىء مضمونها أنّ بعض الأنظمة، التى دارتْ فى فلك الاستعمار(بعض الوقت) يأتى عليها يوم وتستعيد إرادتها..وتقول (لا) وترفض الانبطاح إلى الأبد..وتتمرّد على سياسة التبعية..ولعلّ هذا مغزى ما قاله ماكدونالد لرؤسائه عندما عاد إلى وطنه: يجب أنْ نحذر الشرق دايمــًـا..وأنّ الأمريكيين الحمقى لايــُـدركون ذلك (ص367، 391).