القاهرة 02 فبراير 2021 الساعة 9:58 ص
عاش الذكريات: صلاح صيام
في حياة كل مبدع ذكريات جميلة تبقى عالقة في الذاكرة لتذكرنا بكل ما هو جميل ورائع.. الشاعر الثائر "بابلو نيرودا" يقول عن المذكرات إنها تسجيل لصور فوتوغرافية؛ أما الذكريات فهي تسجيل لوحات تشكيلية من صنع فنان نحت الألم في قلبه الكثير..
في هذه السلسلة نحاول الغوص في أعماق المبدعين، نستخرج ذكرياتهم المحفورة في الذاكرة ونبحث عن الأشخاص الذين أثروا في حياتهم وصنعوا أشياءً لا تختفي بفعل الزمن.
واليوم موعدنا مع المبدع اللبناني الدكتور عبد المجيد زراقط الذي يتذكر:
أستعيد، من الذَّاكرة أسماء أساتذة كبار تعلَّمت منهم، ليس المعرفة العلمية فحسب، وإنما المزايا العلمية والتربوية التي يجب أن يتَّصف بها المعلِّم .
أتاحت جامعة بيروت العربية لنا نحن المعلِّمين في مدارس القرى النائية، متابعة الدراسة الجامعية بالانتساب، في حين لم تكن الجامعة اللبنانية تتيح ذلك.
في السنة الأولى، من مرحلة الإجازة في اللغة العربية واَدابها، كان يدرِّسنا مقرَّر الأدب الجاهلي د. محمد محمد حسين، وكان أستاذًا كبيرًا مُهابًا، يكثر الطلاَّب الكلام على سعة معرفته وعمقها وجدِّيته وحزمه وتشدُّده.
أذكر أنِّي حضرت محاضرةً واحدةً له، عندما جئت ذات مساء يوم خميس، لأشتري الكتب المقرَّرة، وكان كتابه: " الهجاء والهجاؤون..." الكتاب المقرَّر للمادَّة التي يدرِّسها.
بدا لي، في أثناء حضوري محاضرته، صدق مايُتناقل عنه، إضافة إلى إعجابي بطريقة تقديمه للمعلومات ومناقشته للآراء.
قرأت كتابه : "الهجاء والهجاؤون..."، وتوقَّفت عند مناقشته لرأي الأصمعي في حسان بن ثابت، ومفاده:
كان حسان فحلًا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام سقط شعره.
فقد رأى أنَّ ابن ثابت فحل في الجاهلية والاسلام، وأن شعره لم يسقط...
كنت، وما زلت، معجبًا الشعر الجاهلي، وكنت أحفظ، اَنذاك، الكثير من نماذجه، وإذ قرأت ديوان حسان، ولم أكتف بالنماذج التي وردت في الكتاب المقرَّر، بدا لي أنَّ شعر حسان لم يسقط بعد مجيء الإسلام، إذ أنه لم يكن فحلًا، لا في الجاهلية ، ولا في الإسلام.
لم أفاجأ، يوم الامتحان بالسؤال، فقد كان طلبًا لمناقشة رأي الأصمعي, من دون تردُّد ناقشت الرأي، وأبديت رأيي الذي أخالف فيه رأي الأصمعي ورأي أستاذي، وقارنت، على سبيل المثال، بين قصيدة حسان في الليل وقصيدتي امرئ القيس والنابغة في الموضوع نفسه.
عندما أخبرت الزملاء بما أجبت، رأى الكثيرون أنِّي راسب لامحالة، إضافة الى أنَّ الدكتور سيصبُّ جام غضبه عليَّ، فمن يجرؤ على مخالفة رأي أستاذه، وخصوصًا إن كان مثل دكتورنا، الأستاذ الكبير والإسلامي المعجب بشاعر رسول الله صلى الله عليه وعلى اَله وسلم.
في المقهى، راح بعضهم يسخر، ويردِّد عبارات، منها: ما كفَّاه واحد إلا الاثنين.. واحد قديم وواحد حديث !…
قلقت، لكنِّي كنت مطمئنًا إلى أنِّي كنت موضوعيًّا، وقدَّمت من الأدلَّة ما يكفي لتأييد رأيي.
وكانت المفاجأة أني نجحت، وأن الأستاذ الدكتور الكبير والمُهاب و... ، ترك لي رسالة شفوية، في مكتب النظارة، يطلب فيها منِّي الحضور إلى مكتبه.
كانت تلك اللحظات من لحظات الفرح في حياتي، فأسرعت إلى مكتبه، وعندما قدَّمت له نفسي، ابتسم، وقبض على يدي الممدودة لمصافحته، وشدَّ عليها، وقال لي: اجلس، وأشار الى كرسي قرَّبها من كرسيِّه، فجلست، فقال لي مامفاده: هكذا أريد طلاَّبي...، وأريدك أن تواصل تحصيلك العلمي هكذا...، ثم أضاف: لكن عليك أن تنتبه، فليس كل من ستلتقيهم في مسيرتك التعليمية محمد محمد حسين...
دار حديث تعرّف فيه إلي، وأعرب عن استعداده لأن يقدِّم لي أي مساعدة علمية...، شكرته في نهاية الحديث، وأبديت إعجابي به...، فعاد وشدَّ على يدي، وهو يبتسم.
فيما بعد، حدث ما أكَّد لي تحذيره .