القاهرة 28 يناير 2021 الساعة 01:07 م
بقلم: وائل سعيد
آخر كُرسي..
يُمكنك الكرسي الأخير من الاستمتاع التام بالعزلة "أنت والفيلم فقط"،
لكنه يحجُب بعض الرؤية. أيضا..
في عام 2014، عثر صياد يدعى "جودت غراب" على تمثال من البرونز للإله الإغريقي "أبولو" بالقُرب من شاطيء مدينة "دير البلح" بقطاع غزة في فلسطين، ووفق ما نشرته الصحف وقتها؛ صرح غراب بأنه شعر بالخوف في البداية حين لمح جسمًا غريبًا يطفو على سطح الماء، ظنا منه أنه جثة لغريق.
أثار هذا الاكتشاف كثيرًا من الجدل حينها، وظهرت العديد من التكهنات حول مصير التمثال الأثري، حتى أقدم المخرج السويسري نيكولاس واديموف عام 2018 على إحياء تلك التكهنات من جديد وتتبع أثر الإله الشاب من خلال الفيلم الوثائقي "أبولو غزة The Apollo of Gaza" إنتاج مشترك بين شركة Akka Films والمجلس الوطني للسينما في كندا.
لكن "أبولو" أبى أن تندثر ذكراه عند هذا الحد؛ فقديما حكت عنه الأساطير بأنه كان يتنقل أحيانا طائرا على ظهر بجعة، ويبدو أنه انتقل ثانية هذه المرة علي أيدي الأخوين عرب وطرزان ناصر، اللذين أعاداه إلى الحياة مجددا في فيلمهما الرابع "غزة مونامورGaza Mon amour"، بطولة سليم ضو وهيام عباس، سيناريو وإخراج الأخوين ناصر.
رُشح الفيلم للعديد من الجوائز وحصد منها الكثير أيضا، كان آخرها جائزة أفضل فيلم عربي بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ 42 مناصفة مع الفيلم اللبناني "نحن من هناك" إخراج وسام طانيوس.
اتخذ الفيلم من واقعة جودت الصياد متنا لمسار الأحداث الدرامي، مع نسج عدة خيوط حول رحلة ظهور التمثال في تتبعه لقصة "عيسى ناصر-سليم ضو" الصياد العجوز الذي يعثر علي الكنز الأثري بمحض الصدفة في الوقت نفسه الذي يُقرر الزواج بعد عزوف طويل أكل عمره بأكمله، فتنتابه مشاعر حب تجاه جارته في السوق، الخياطة الأرملة "سهام-هيام عباس"، في مشاركتها الثانية مع الأخوين ناصر.
يستدعي الفيلم أيضا رائعة المخرج الفرنسي آلان رينيه "هيروشيما حبي" وفيه نعيش مأساة إلقاء القنبلة النووية في اليابان من خلال علاقة عابرة ليوم واحد بين مهندسة فرنسية تزور هيروشيما وتلتقي هناك أحد المهندسين من أبناء البلد..
إلا أن الحال في "غزة" لم يقف عند حد إلقاء قنبلة رغم قسوة الحدث؛ بل يمتد كأسلوب حياة مستمر لشخصيات الفيلم، ليرسم صورة بانورامية للأوضاع المعيشية والاقتصادية للبلدة المحتلة، بعيدا عن الصورة المعتادة في طرح القضية ومقتربا إلى حد كبير من الأسلوب الساخر للمخرج "إيليا سليمان" بروح كوميدياته السوداء، بداية من العنوان التهكمي.
موتيفات قديمة قادرة علي إثارة الدهشة..
رغم أن معظم الصور الدلالية الواردة في الفيلم تم استخدامها من قبل، قام سيناريو الأخوين ناصر–بالتعاون مع الكاتبة الفرنسية فاديت دروارد- بتسخيرها عكس استخدامها النمطي، بدءًا من المشهد الافتتاحي حيث نسمع صراخا وطلقات رصاص على خلفية سوداء تلج بنا تدريجيا داخل كشك نقطة التفتيش، وفي الداخل يجلس ثلاثة من رجال الشرطة منهمكين مع رئيسهم في مشاهدة فيلم "أكشن" -مصدر صوت الرصاص- أثناء إعدادهم لوجبة طعام، فيما تتجاور بنادقهم بأريحية إلى جانب الخضروات والأطباق والسكاكين وكأنَّا إزاء صورة لمطبخ منزلي في ساعة ظهيرة مشمسة.
خلال ذلك تستعرضهم الكاميرا بمرور خاطف؛ أحدهم يقطع الخضار، الآخر يقوم بحشو بطون السمك، والثالث يجلس مزاولا الشواء، بينما يقف الرئيس على باب الكشك يسلك أسنانه بلا مبالاة ويشير إلى "عيسى ناصر – سليم ضو" كي يمر بعربته.
يظهر عيسى في الكادر أعلى دراجته ذات الثلاث عجلات "تروسيكل" من النافذة أولا بمحاذاة التليفزيون كمن خرج منه، ثم بصورة أوضح من الباب، وعلى الحائط صورة لمجاهدين الكتائب كُتب عليها "يا قدس، سنأتيك بأم المعارك فاتحين"، ثم تختلط أصوات الرصاص في الخارج وأضواء الانفجارات مصحوبة بصوت الفيلم المعروض على الشاشة الصغيرة في نقطة التفتيش.
هكذا، في أقل من دقيقة، تمكن السيناريو بمنتهى الذكاء من تلخيص الوضع الراهن في الأرض المحتلة، فلم يعد دوي المعركة ورصاصها يستجلب أدنى قدر من الحماسة أو الخوف أو حتى الانتباه، ليس إلا المبالاة فحسب هي من تعلن عن نفسها بجدارة في كل كلمة وتفصيلة، فيما تتصدر الشعارات الحماسية الحوائط فوقهم بكلماتها الرنانة الجوفاء.
بين شقي الرحى؛ الكيان الصهيوني الذي طال أمده من جهة وحكومة المقاومة من جهة أخرى، يقبع الشعب الفلسطيني متمثلا في دخول "عيسي" في المشهد السابق، والذي يظهر في المشهد التالي مباشرة مسجونا داخل الكادر من نافذة قاربه العتيق، رغم ذلك، يعلن بدوره عن فلسفته الجديدة، حين يقف ليتبول في البحر علي مقربة من نقطة التفتيش.
بينما الشباب الأمل الوحيد في المقاومة ينحصر همهم في الهروب من هذا البلد، فابنة "سهام" لا يشغلها سوى البحث عن جواز سفرها طوال الفيلم، في السياق نفسه يترك صديق "عيسى" البقال الشاب أسرته مسافرا للبحث عن لقمة العيش في الخارج.
أكثر ما يحاول الفيلم إبرازه عبر شخصيات سلطة المقاومة، بجماعاتها المسلحة وكتائبها العسكرية، هو الطابع المتأسلم، فقبل التحقيق مع عيسى الناصري، يحرص الضابط هو ومعاونه في القسم على تأدية الصلاة في وقتها، مواريا التمثال "رمز الوثنية" بملاءة بيضاء إلى أن تأتيه الأوامر الجديدة من الجهات العليا، بينما ينهر مسؤول أكبر منه خبير الآثار المنتدب لفحص التمثال وتقديم تقرير عنه، حين يخبره بأنه لأحد الآلهة القديمة رادعا إياه بحدة أنه لا إله إلا الله، مع تقليصه لقيمة أثر كهذا في ثمنه بالضبط، ليتم بيعه في النهاية وشراء صاروخ حربي، يستقبله الكثير من أهالي البلدة المغرر بهم بالتهليل والترحاب.
لعبت أيضا الأغاني والأفلام المصرية الموزعة على مشاهد الفيلم دورا مهما في تلك النستولوجيا عن ريادة مصر وقواها الناعمة التي تراجعت إلى أقصى حد في المنطقة العربية، رغم ما كان لها من نفوذ لا يستهان به، سيما في الحقبة الناصرية.
فلسطين، ملكة الجنة..
أطلق على "عشتار" إلهة الحب والحرب عند السومريين في حضارة بلاد الرافدين، عدة أسماء، من بينها "ملكة الجنة"، وتعتبر بهيئتها النسوية رمزا أبديا للخصوبة والحياة. وسط ذلك الموات، عبر الفيلم من خلال نساء وحيدات يفتقدن الذكورة التي لابد منها كيما تنبعث هذه الحياة من جديد؛ بداية من "سهام" الأرملة وابنتها المطلقة "ميساء عبد الهادي"، مرورا بالأخت العانس لعيسى "منال عوض"، ثم مجموعة النسوة اللاتي توافدن على بيت عيسى بعادية ليختار من بينهن زوجة له.
أما "سهام – هيام عباس" الخياطة الأرملة؛ فبرغم واقعها المرير وفقدها لرجلها ومعانتها مع ابنتها المطلقة فما تزال في أوج أنوثتها كمعادل موضوعي لفلسطين التي خسرت رجالها الحقيقيين -شهداء المقاومة- ما أفضى إلى تلك الحالة من الهوان، وإن كانت تحاول الفكاك منها بترقب البعث ولو على يد رجل عجوز لا حيلة له كعيسى ناصر.
في غرام "سليم ضو"..
ليس من المغالاة اعتبار "غزة مونامور" فيلما مكتمل العناصر ومتجانس فنيا، سواء على مستوى الحبكة، أو الديكور أو المناظر، أو حركة الكاميرا التفاعلية، أو الموسيقى التصويرية، أو الأداء الرائع لفريق العمل كافة -بما فيهم الأدوار الثانوية- وعلى رأسهم الممثل القدير سليم ضو.
فقد عزف الضو مقطوعة غاية في الرهافة قوامها مشاعر إنسانية مختلطة لرجل مسن لم يدفأ بيته مطلقا بحضور أنثوي أو أطفال بينما ينفلت عمره في تعقب حفنة من الأسماك هي كل ما يعتاش عليها. رغم ذلك، ما تزال القلوب والأجساد عطشى للحب والحياة، وفي لحظة عشق حقيقية استطاعت دون قصد منها تجاوز الأميال الثلاثة المخصصة لها فحسب، مخترقة مياهها المحتلة بجسدين ملتحمين رغم دوي المدافع والرشاشات.