القاهرة 26 يناير 2021 الساعة 10:53 ص
كتبت: سماح ممدوح حسن
لم تُكتب فصولها بالترتيب المعهود والعادي، ربما لأنها تحكى قصة غير عادية قصة حدثت بالفعل، رواية "ما لم تروه ريحانة".. أدهم العبودي.
أن تكون سٌنّيا فى بلد تحكمه الأغلبية الشيعية المتطرفة فهذه مأساة، وأن تكون سُنّيا وامرأة في بلد تحكمه أغلبية شيعية ومتطرفة دينيا ومتعصبة ضد النساء فهذه مأساة أكبر. وكانت هذه مأساة ريحانة، وربما مأساة كل امرأة تعيش في إيران. وفي كثير من المجتمعات الشرقية التى تُحكم بالعصبية الدينية والجهل والاستبداد.
في 25 أكتوبر 2014، نُفذ حكم بالإعدام شنقا على"ريحانة جباري" بعدما أدينت بقتل أحد رجال المخابرات الإيرانية السابقين "مرتضى عبد الله سرابندي"، بدافع السرقة، بينما الحقيقة وكما هي الأدلة المثبتة، كانت الضحية "ريحانة" تدافع عن نفسها ضد الرجل الذى حاول اغتصابها.
في عام2007، سمع العالم كله عن تلك الفتاة "ريحانة جباري" التي تحاكم في إيران بتهمة قتل ظابط سابق بالمخابرات، ولعدم كفاية أدلة إثبات دافع الفتاة، اتُّهمت بالسرقة وثبُتت عليها التهمة التي لم يكن لها أي قرائن أو أدلة، ولأجل هذا طالبت الكثير من الدول وشككت الأمم المتحدة في المحاكمة وطالبت بالإفراج عنها، لكن لم يجد ذلك كله أي استجابة في طهران. ما بين 2007 عام صدور الحكم بالإعدام على الفتاة، وعام 2014 عام تنفيذ الحكم، قُتلت الفتاة ألف ألف مرة من التعذيب والاغتصاب في سجون إيران التى تنقلت بينها. وبعد تنفيذ الحكم بيومين، خرجت رسالة ريحانة إلى أمها والتي هزت انسانية العالم أجمع.
هذا بالتحديد ما رواه أدهم العبودي، ولم يسعف العالم أو يمهل القدر"ريحانة" أن تحكيه بنفسها. تُبنى القصة على وقائع حقيقية في الأسماء والأحداث والموقع الجغرافي والحدث التاريخي. لكن ما خرج للعالم لم يتجاوز المعلومات المتداولة بين تلك المنظمات التي أدانت الحكم الجائر، وما عدا ذلك كان خيال المؤلف عن ريحانة ليقوله بالنيابة عنها.
القمع المذهبي وقمع المرأة في إيران:
من أوضح القضايا التي تتحدث عنها الرواية، هي القمع المذهبي من معتنقي المذهب الشيعي أنصار الثورة الإسلامية، والحرس الثوري الإيراني، لمعتنقي المذهب السني، رغم أن كليهما يعتنق بالأساس دينا واحد لرب واحد ورسول وقرآن واحد، وتجلى هذا فيما كانت تحكيه "ريحانة" في رسائلها لـ"شعلة، وإيوان، ووداع" عن تلك الحادثة التي تذكرتها صغيرة، من منع الشيعة لصلاة السنة في المساجد، وبطش الأمن بكل من يفعل ذلك، فتذكر عندما خرجت بصحبة أبيها وأمها للصلاة في المسجد وانتظرهم الأمن خارجا وأمعن فيهم القتل والضرب والاعتقال. وأيضا بعدما أصيبت بجروح بالغة من الضرب على يد الأمن وهي خارجة من السينما مع صديقتها "هند" وتوجهت وأمها إلى المستشفى للتداوي، ومنع عنها أيضا الدواء، بحجة أن ليس هناك مكان شاغر، والحقيقة كما قالت لها إحدى الممرضات من إنها سُنّية لا يحق لها الدواء. وبالتأكيد مسألة تحريم الزواج بين السنة والشيعة.
منذ شهور قليلة، حدث ان رفع نظام الملالي من الكتب المدرسية في إيران صور النساء! وعلى شعار خميني منذ اليوم الأول لتوليته "إما حجاب وإما عقاب" قمعت المرأة، فيبين في حديث ريحانة عندما صرحت أنه ليس حتى للمرأة المسيحية أن تخرج دون أن تغطي شعرها، ومحرم على أكثرهن التعليم (سُنّة وشيعة) والعمل، والترفيه، باختصار يعاملهن المجتمع كأن لا يليق بهن سوى الموت. فالنساء في إيران بشر من الدرجة الثانية، صُنعن للإنجاب والخدمة في بيوتهن فقط، وكل القوانين هناك صيغت من أجل هذا الغرض. وهو ما تكافح النساء هناك كل يوم، فيعذبن ويضربن ويعتقلن ويمُتن فى المعتقلات لتغييره.
تماثل القمع:
لم يكن قمع المرأة يقتصر على جغرافيا التي تُحكى في حدودها الرواية، فببعض النظر حولنا سيتضح لنا أن قمع المرأة واحد في المجتمعات العربية والشرقية خاصة الفقيرة منها، الحرمان من التعليم، والعمل، السفر، والاختيار الحر للزوج، المحاسبة على الطموح كما لو كان جريمة، حتى أن القمع تجسد في الفكرة السائدة عن (ما دامت المرأة اختارت الخروج من بيتها فهي مستباحة).
لغة الرواية:
تذكر الرواية تفاصيل عن رحلة تعذيب وقهر تعرضت له"ريحانة" سيجد بعض القراء صعوبة في مواصلة القراءة من شدة قبح، وبشاعة ما يقرأون، ولا أظن أن الكاتب يمكنه لوم القارئ إن عجز عن إتمام القراءة، لكن ما سيدفع الكثيرين إلى الاستكمال حتى النهاية هي (لغة الرواية) تلك الكتابة الأشبه بالشعر (والتي أصبحت بصمة أدهم العبودي في جميع كتاباته) فكأنما خفف الكاتب من شناعة ما يسرد بجمال اللغة والتراكيب، وربما كانت هذه اللغة هى الأليق للتعبير عما جاءت به الرواية، لتكون اللغة في تلك الرواية من أهم وأجمل سماتها.
شكل السرد فى الرواية:
رسائل ورد على الرسائل.. هذه هى الطريقة التى كُتبت بها الرواية، والتى ألهمت بالأساس من تلك الرسالة التي تركتها ريحانة لأمها ووصلت إليها بطريقة ما. فلا تتعجب عندما تبدأ أول صفحات الرواية بالفصل (22) هذه التقنية الجديدة في الكتابة كان لها أيضا سحر خاص، فلم تكتب الرواية بخط واحد من البداية للنهاية من الطفولة والمراهقة والشباب الذى بدأ بالحادثة حتى الإعدام، بل كانت عبارة عن رسائل من الحياة كلها، كما يصفو لريحانة الحكي، دون ترتيب دارج، فإن أردت أن تقرأ من البداية للنهاية ستعي القصة تماما، وهذا لن يختلف إن اخترت فصولا بشكل عشوائي وقرأتها، لن يخل هذا أبدا بحبكة الرواية. وهذا يُعد إبداعا إضافيا إلى كل جماليات الرواية.
عنصر المرأة في الرواية:
(شعلة، وداع، هند، ريحانة) حضور المرأة في الرواية هو محور القصة. لا أقصد فقط البطلة (في الحقيقة والرواية) إنما أيضا بقية النساء. "هند" الصديقة التي خففت كثيرا من معاناة "ريحانة" فكانت رفيقة الدرب. "وداع" الشخصية الخيالية التي اخترعتها ريحانة وخلقتها على دفاتر الرسم ثم وشمتها، سرا، على كتفها. ثم"شعلة" أهم العناصر النسائية. شعلة الأم، هي من علمت ريحانة كل شيء في الحياة، علمتها الحياة، كديدن الأمهات جميعا، عندما يعلمن بناتهن الحب والتعاطف، المودة والإنسانية. هن من يعلمن الأبناء حب الوطن ومعنى الوطن، لكن من خلال كلمات ريحانة لشعلة، ربما سيستشعر القارئ بعض اللوم والحيرة، ربما سؤال سأله الكثيرون لأهاليهم وأنفسهم، وهو، لماذا يعلمنا الأهل -الأمهات خصوصا- أخلاقا إنسانية تليق بالبشر وحين نخرج للحياة عندما نكبر، نرى عكس كل ما تعلمناه وتربينا عليه، لنتيه بعدها هل نتمسك بما تربينا عليه، أم أن الأصح هو التماهي مع ما لم نألفه من قبل؟ فهل أخطأ الآباء في طريقة تعليم أبنائهم عندما لم يربوهم على الاستئساد وظن السوء حتى يثبت العكس؟
القراءة عما لا نعرف:
إذا كنا نجهل موضوعا فلمعرفته لابد وأن نقرأ عنه، ولا أفضل من الأدب في سطر هذه المهمة. وفي هذه الرواية استطعنا معرفة جغرافيا هذه البلدة القصية عنا، عن اكتظاظ شمالها، وعذوبة طبيعة جنوبها، أوقات الأعياد والتي تشابهت في كثير منها مع أعيادنا كعيد الربيع، وطقوسه المشتركة بين كل الشعوب تقريبا. عرفنا كيف يقضي الإيرانيون عيدهم، عرفنا كيف أن السينما محرمة على الناس عموما والسُّنة والمرأة خصوصا. عرفنا كيف هى طقوس الإعدام فى إيران، كيف تأتي عربة نقل الموتى لتبيت في السجن بانتظار حمل جثمان من سيسلبون منه الحياة.
ولجمال السرد، واللغة، والقصة التى صيغت لتنير الضمائر، لتنعش الذاكرة، للقارئ والعالم، استحقت رواية "ريحانة".. أدهم العبودي، الوصول للقائمة القصيرة لجائزة راشد بن حمد للإبداع.