القاهرة 19 يناير 2021 الساعة 09:05 ص
ترجمة وإعداد: محمد زين العابدين
تساعد مواقع التواصل الاجتماعي على تغذية التصرفات غير الاجتماعية والتعصب للآراء
تكونت لدى العديد منا خبرة عن كيفية تغيير وسائل التواصل الاجتماعي للعالم الافتراضي على الشبكة العنكبوتية، لكن هل يجب أن نكون منزعجين من تغييرها لسلوكنا أيضًا؟
*دور مواقع التواصل الإجتماعي في البلبلة وتدمير الروابط الاجتماعية:
أحيانًا ما نشهد نهايات غير سعيدة لعلاقات صداقة أو ارتباط عاطفي أو حتى زواج على الملأ في فضاء الفيسبوك الواسع، وقد يصل الأمر إلى اتهام أحد الأطراف للآخر بتهم غير أخلاقية، وهي أمور تثير الاستياء عند تناقلها علنًا على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصًا عندما تجذب هذه المشكلات انتباه الأطفال، وتثير تساؤلاتهم، وتحدث انقسامًا بين الأصدقاء ما بين مؤيد ومعارض لهذا الطرف أو ذاك. ربما تثير هذه الأمور شهوة البعض للمشاركة في إذكاء نيران الفتنة، وربما تدفع البعض الآخر لأن يعاهد نفسه بعدم التورط في التعليق عليها، ومما لا شك فيه أن وسائل التواصل الاجتماعي تساهم بالضرورة في تدمير الكثير جدًّا من الروابط الاجتماعية، وهناك العديد من الشكاوى من استنزافها للوقت، وغزوها للعقول، وإحداثها للبلبلة والتشويش الفكري، وربما الأكثر خطورة من ذلك هو اقتحامها للخصوصية. لكن هل بالفعل تجعلنا هذه المواقع غير اجتماعيين؟ هل هناك مصداقية لهذا الاتهام لوسائل التواصل الاجتماعي؟
*كيف ننجو من فخ مواقع التواصل الاجتماعي:
ببساطة يمكن تجنب الوقوع في هذا الفخ بوضع حد فاصل بين التفاعل مع الأشخاص عبر الواقع الافتراضي، وبين التفاعل عبر العالم الواقعي، مع إعطاء الأهمية الأكبر للتعاملات الاجتماعية الحقيقية، ولكن إذا أردنا الوصول إلى جوهر الموضوع علينا أن ننظر إلى كيفية تأثير شبكات التواصل الاجتماعي على سلوكنا وأفعالنا تجاه الآخرين، فهي يمكنها أن تحدث تأثيرات قوية على سلوكنا وأفعالنا بسبب الطريقة التي تعمل بها أدمغتنا، والحقيقة أن تفاعلاتنا الاجتماعية، سواء في الواقع أو على الإنترنت ذات تأثير كبير على تفكيرنا وإدراكنا، ففرضية العقل الاجتماعي التي تم وضعها في التسعينيات من قبل عالم الأنثروبولوجيا روبرت دنبار تشير إلى أن طبيعتنا الاجتماعية كبشر هي السبب في كبر حجم المخ البشري.
حاجة الإنسان للتواصل مع الآخرين:
الحجة التي تقدمها نظرية العقل الاجتماعي لحاجة الإنسان للتواصل مع الآخرين هى أن البشر البدائيين تجمعوا في شكل مجتمعات، وهذا النهج التعاوني أثبت أنه مفيد جدًّا لبقائنا، ولكن أسلوب الحياة هذا يتطلب الكثير من المعلومات التي يلزم معالجتها بواسطة المخ، مثل: فيمن تثق، ومن سوف يساعدك، ومن له دَيْنٌ في عنقك، ومن تفضل من الأشخاص؟.. وهكذا، ويلزم توفير قدر كبير من التفاصيل في أي لحظة، وبشكل أساسي نحتاج إلى الكثير من المادة الرمادية بالمخ للحفاظ على آلية معالجة المعلومات، هكذا تشير النظرية على أية حال (وهناك نظريات أخرى)، وتظهر مناطق مثل قشرة الفص الجبهي والقشرة الحزامية الأمامية بالمخ نشاطًا متزايدًا عند معالجة إحساسنا بالذات، وهويتنا، وعند معالجة الوعي بالمجموعات أو المجتمعات التي نشعر أننا جزء منها، وكل هذا يشير إلى أن تفاعلاتنا الاجتماعية تمثل إحدى المكونات عظيمة الشأن لهويتنا، ومن الأمثلة الواضحة على حاجة الإنسان للتواصل الاجتماعي وتأثير حرمانه منه، ما يحدث للسجناء المعزولين في زنازين منفردة، حيث يعتبر علماء النفس هذه الحالة أحد الأشكال القاسية للتعذيب النفسي.
أضرار إدمان وسائل التواصل الاجتماعي:
على الجانب الآخر، فإن الإسراف في التواصل الاجتماعي ليس جيدًا أيضًا، فهو مرهق للذهن؛ فالارتباط بعلاقة مع شخص ما هو عمل كثير بالنسبة للمخ، حيث يتطلب مجهودًا ذهنيًّا، وهو ما يفسر التناقض الظاهري بين البشر، والذين يحتاجون إلى التفاعل الاجتماعي، لكنهم يحتاجون أيضًا إلى الخصوصية، فالتفاعل الإجتماعي يعمل على استهلاك رءوسنا، لذا نحتاج إلى الخصوصية للابتعاد قليلًا وإعادة الشحن، وكل هذا يبين أن المخ يقوم بتوازن دقيق لمواكبة معظم تفاعلاتنا الاجتماعية، ولكن كما أن وضع الكمية المطلوبة من السكر 10 مرات في الكعكة لا يجعلها أفضل 10 مرات، فكذلك الشبكات الاجتماعية يمكنها أن تضخم جوانب التفاعل الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية بطرق غير مفيدة، إن لم تكن ضارة بشكل صريح. في وقتٍ مبكرٍ من عام 2010، كان المختصون بالطب النفسي يثيرون الجدل بشأن كون إدمان شبكات التواصل الاجتماعي ظاهرة حقيقية ينبغي تصنيفها على أنها اضطراب إكلينيكي، مستندين إلى دراسة حالة لأحد الأشخاص كان يقضي خمس ساعات يوميًّا في متابعة الفيسبوك، ومن أجل القيام بذلك كان نادرًا ما يترك المنزل، مما أدى إلى فقده للوظائف، وفي إحدى المرات قام بمقاطعة جلسة الاستشارة العلاجية لمتابعة تحديثات أصدقائه، وهذا يعني بالضرورة أن قطع جميع أشكال التواصل الاجتماعي الأخرى للتركيز فقط وبتأن غريب على وسائل الإعلام التفاعلي يكون على حساب وجودك العام.
كيف تحدث مواقع التواصل الاجتماعي تأثيرها على المخ:
يؤدي انطلاق هرمون الأوكسيتوسين إلى إعطاء شعور عام بالسعادة ودفء التواصل، كما يؤدي انطلاق مادة الدوبامين إلى منح دفعة من المتعة، وبعض المناقشات العلمية-بل وحتى بعض الدراسات- تقدم دليلًا على أن التفاعل الاجتماعي الناجح على شبكة الإنترنت، مثل أحد المنشورات واسعة الانتشار على الفيسبوك، أو إحدى التغريدات التي تمت مشاركتها على نطاق واسع، يمكنها أيضًا أن تحدث هذه الاستجابة الإيجابية في المخ، ومع مرور الوقت يتكيف الدماغ لتوقع هذه الإشارات الممتعة، ويفعل أشياء مثل تعطيل المناطق المسئولة عن المثبطات أو التحكم الذاتي في الوعي لإبقائها قادمة، وفي دراسة لتصوير الأعصاب بجامعة زيورخ أجراها الطبيب النفسي د.كارتين بريللر، أظهرت أن مدمني الكوكايين يتضاءل في دماغهم النشاط في مناطق مثل القشرة المخية الجبهية، وهو ما ينتج عنه تقليل مشاعر العطف والتعاطف والرغبة في التواصل الاجتماعي، ومن ثم فإنه إذا كان إدمان شبكات التواصل الإجتماعي يوظف ميكانيزمات مماثلة لإدمان الكوكايين، فإن شبكات التواصل الاجتماعي بالتالي سوف يكون لها تأثير سلبي بما يدعو للسخرية على مقدرة الشخص على التفاعل الاجتماعي الحقيقي، وهذه الدراسات تحتاج لمزيد من البحث لبيان مدى مصداقيتها، وهناك مشكلة أخرى؛ وهي أن الناس لديهم قدر أكبر من التحكم في تفاعلاتهم على الإنترنت، وهذا يعني أنهم يستطيعون أن يقرروا بدرجة أكبر بكثير كيف يختبرهم الآخرون. يمكنك وضع الجيد فقط من الصور، وحذف التعليقات غير الحكيمة، والتدقيق الإملائي لكتاباتك على الفيسبوك، وما إلى ذلك، وهذا يفي بعملية أساسية يشترك فيها المخ تعرف بـ"إدارة الانطباع"، حيث إننا مضطرون دائمًا لتقديم أفضل صورة ممكنة لأنفسنا أمام الآخرين لكى نجعلهم أكثر تقبلًا لنا، وفي دراسة أجريت بجامعة شيفيلد سنة 2014 بواسطة د.توم فارو تم توجيه النظر لعملية إدارة الانطباع، وذلك باستخدام تقنية المسح الضوئي، حيث طلب الفريق البحثي من المستهدفين بالبحث أن يختاروا السلوكيات التي من شأنها أن تجعل الناس يحبونهم، أو على العكس لا يحبونهم، وتم تسجيل نشاط الدماغ في مناطق قشرة الجبهة الوسطى، ووسط الدماغ، والمخيخ، حيث إنه من المرجح أن هذه المناطق من المخ تشترك في معالجة صورتنا الذاتية التي نريد تقديمها للآخرين، ومع ذلك اتضح أن هذه المناطق كانت نشطة بشكل ملحوظ فقط عندما حاول الأشخاص جعل أنفسهم يبدون سيئين، وذلك عندما كانوا يختارون سلوكيات تجعل الناس لا يحبونهم، فإذا كانوا يختارون سلوكيات تجعلهم يبدون جيدين، لم يكن هناك تغير ملحوظ بالنسبة للنشاط الطبيعي للمخ، إلى جانب حقيقة أن المستهدفين من البحث كانوا أسرع بكثير في معالجة السلوكيات التي جعلتهم يبدون جيدين بدلا من سيئين، والخلاصة التي خرجت بها الدراسة هى أن تقديم صورة إيجابية لأنفسنا أمام الآخرين ما هو في الواقع إلا محصلة لما يقوم به المخ طوال الوقت، إنها الحالة الافتراضية للمخ، ومن الواجب الاعتراف أنها كانت دراسة محدودة النطاق، ولكن بالرغم من ذلك كان مردودها مشوقًا، فإذا كنا نركز على تقديم صورة إيجابية لأنفسنا، فليس مستغربًا أن تكون لشبكات التواصل الاجتماعي كل هذه الشعبية لأنها توفر إحساسًا أكبر بكثير بالتحكم في كيفية تعاملنا معها، ولكن هذا التحكم هو سلاح ذو حدين، فحتى إذا كنت فقط جالسًا مع الأصدقاء سيكون لديك ميلٌ جارف لتفحص الفيسبوك على هاتفك المحمول بدلًا من التحدث معهم. عادة ما يكون الدماغ عازفًا عن المخاطرة، ويفضل الخيارات التي يمكن التنبؤ بها أكثر من الخيارات الأقل تحديدًا،وغالبًا ما تكون الواجهة الهادئة لشاشة الفيسبوك أكثر إشعارًا لك بالطمأنينة من المحادثة الفوضوية التي تدور حولك، وربما يعتبر المحيطون بك أن هذا السلوك غير اجتماعي، وهم محقون في ذلك، وما يثير القلق بدرجة أكبر أن مسحًا أُجري في عام 2015 للرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18-40 عامًا بواسطة الباحثين جيس فوكس ومارجريت روني (ونشرته مجلة الفروق الشخصية والفردية)، قد أظهر أن مقدار الوقت الذي يتم استهلاكه على مواقع شبكات التواصل الاجتماعي، في نشر صور"السيلفي" والصور المكشوفة، وتحرير صور"السيلفي" لجعلها تبدو أفضل، كان مرتبطًا بسمات شخصية مثل النرجسية والسيكوباتية.
بين الانفتاح على الفيسبوك والبلطجة الإلكترونية:
الاكتشاف الآخر المثير للاهتمام كان من خلال دراسة أُجريت سنة 2015 بواسطة البروفيسور جوى بيلوتشيت، بجامعة ليندينوود، حيث أظهرت الدراسة أن أنماطًا معينة من السلوك على شبكات التواصل الاجتماعي، تعرف ب"الانبساط"أو"الانفتاح والمجاهرة" تعمل بالفعل على زيادة فرص الوقوع ضحية للبلطجة الإلكترونية، وهو أمر يبدو بديهيًّا، ولكنه يخلق قدرًا معينًا من الإحساس بالخطر، وعادة ما يقمع الشخص طبيعته الملتهبة أو المعبرة، لأن الأعراف الاجتماعية تردع مثل هذه الأشياء.علامات خفية لانزعاج المحيطين بك، لغة جسد خرقاء، وردود أفعال، أجواء من الصمت. كل هذه الأشياء تلعب دورًا إلى حد ما في الحفاظ على ميول الشخص للاندماج في الجماعة أو التوحد المفرط مع ذاته، ومع ذلك فهذه الإشارات والتلميحات لا تتواجد على الإنترنت، وبالتالي فإنه بمقدورك أن تكون مفرطًا في التعبير عن نفسك بروح منفتحة أو منغلقًا على ذاتك كيفما تحب، ولكن الأشخاص الآخرين ربما يجدون هذا مقلقًا أو مثيرًا للاشمئزاز، أو قد يرونه سعيًا وراء جذب الانتباه بشكل مثير للسخرية، وفي كلتا الحالتين يتفاعلون بشكل عدواني ويهاجمونك، ولكن شبكات التواصل الاجتماعي تحمي الأشخاص الذين يقومون بالهجوم من عواقب أفعالهم، إذ أنها بطبيعتها تقدم مسافة فاصلة ودرجة من التخفي وراء أسماء مستعارة بين هؤلاء الأشخاص وبين ضحيتهم، مما يحميهم من التأثيرات المباشرة.
شبكات التواصل بين تدمير التواصل الاجتماعي وبنائه:
من ثم فإن شبكات التواصل الإجتماعي تصبح مرة أخرى وسيلة لتسهيل واستدامة الأفعال غير الاجتماعية، غير أنها تعطينا المقدرة على التقاط واختيار ما نراه ونسمعه من الآخرين، كما أنها تجعل تكوين المجموعات والروابط أكثر سهولة، والبقاء في عضويتها بشكل دائم، وهو ما يمكن أن يمنحنا المزيد من النزوع المفرط، ويجعلنا أكثر تعصبًا تجاه وجهات النظر المختلفة، ونصبح غير معتادين على مواجهتها، فيصبح الأمر أشبه بلقاء عابر في مقهى تحول بسهولة إلى شجار عنيف حول فريق لكرة القدم، وهذا نوع من السلوك غير الاجتماعي الذي يمكن أن تتسبب فيه شبكات التواصل الاجتماعي، وشبكات التواصل الإجتماعي ليست في المطلق فضاءً للعذاب والكآبة، إذ أنها يمكن أن تكون مجالًا لتكوين الصداقات والعلاقات العظيمة عبر العالم بشكل لم يكن متاحًا من قبل، ولكنها في الواقع قد لا تعمل هذا أحيانًا بشكل جيد، وقد طور المخ البشري عدة أنظمة متنوعة للتأكد من حدوث التفاعل الاجتماعي بأكبر قدر ممكن من الكفاءة.
*المصدر: مجلة ( (Very interesting الإنجليزية- عدد سبتمبر/أكتوبر 2017).