القاهرة 19 يناير 2021 الساعة 08:47 ص
كتب: محمد علي
في الخامس من يناير الجاري قامت منصة Netflix الترفيهية بعرض الفيلم السابع للمخرج المصري القدير داود عبد السيد "مواطن ومخبر وحرامي"الذي عرض في دور العرض السينمائي بالعام 2001، ثم عرض بعد ذلك في أسواق الفيديو فيلم، حتى منتصف الألفية، ومع غزو القنوات الفضائية وعرض الفيلم على بعض القنوات تلك، ومع مرور الوقت أخذ الفيلم في الاختفاء وذلك يرجع لعدة أسباب لعل أهمها هو غرابة الموضوع حسب ما يبرر البعض، ومع ظهور الإنترنت وجنة اليوتيوب أصبح من السهل مشاهدة الفيلم في أي وقت.
لكن لعدة أسباب بعضها لها مرجع أخلاقي وأخرى ليس لها أي مبرر، تم قص العديد من المَشاهد وكتم صوت الراوي في مَشاهد عدى.
يعد داود عبد السيد من أهم صناع السينما المصرية وذلك لكونه مخرجًا مميزًا له صورته المعروفة ولغته السينمائية التي لا تشبه غيره من أبناء جيله، كما أن جميع أفلامه حملت اسمه كمؤلف عدا فيلم أرض الأحلام من تأليف هاني فوزي. ولهذه الأسباب جاءت أفلامه قليلة بالمقارنة بالمسيرة التي بدأت من منتصف الثمانينيات ومستمرة حتى الآن ونتمنى أن تستمر إلى الأبد.
لذا كان عرض النسخة الكاملة للفيلم على منصة Netflix حدثًا له أهمية كبيرة عند محبي سينما داود عبد السيد، وبسبب ذلك أيضًا يمكننا إعادة تناول الفيلم نقديًّا بعد مشاهدة النسخة الكاملة.
تبدأ أحداث الفيلم في القاهرة 1980 حيث تبدأ المدينة في التغير الذي نتج عن قرارات الانفتاح الاقتصادي وكيف يؤثر ذلك على الشكل الاجتماعي للمدينة في السنوات القادمة، لم يكن ذلك من خلال تقديم نص سينمائي يناقش قرارات تخص الاقتصاد والأرقام ولكن من خلال الدخول الي عوالم الطبقات التي دمجها التغيير معًا رغمًا عنها ربما.
يقوم عبد السيد بالتدليل على ذلك من خلال ثلاث شخصيات لا تربطهم روابط من أي نوع، كل منهم يمثل طبقة من المجتمع لها عادتها وثقافتها الخاصة بها والتي تختلف كل منها عن نظيرتها إلا أن التغير الذي يحدث للمدينة يضعهم في قالب واحد حتى أن يتم إنتاج طبقة جديدة منبثقة من دمج الطبقات الثلاث تلك.
المواطن:
هو سليم سيف الدين المنتمي لطبقة الأرستقراطية التي نالت حظًّا وفيرًا من التعليم والتربية على تذوق الفنون، يعيش في منزله وحيدًا يعكف جاهدًا على كتابة رواية بعد أن خاب سعيه في معرفة ما يريد أن يعمل، تجمعه علاقة جنسية بمديحة وهي تنتمي لنفس الطبقة لذا لا وجود لأي خلاف بيهم حول ماهية تلك العلاقة حيث يرى فيها سليم مجرد تفريغ لطاقة تجعله قادرًا على استكمال عمله الأدبي، وكذلك هي ترى في علاقتهم نوعًا من شغل الفراغ في حياتها؛ لا يعبأ أحدهم بما يمكن أن يحدث بعد ذلك.
المخبر:
فتحي عبد الغفور "مُساعد شرطة – مخبر" عمل تقريبًا كما أشار داود من خلاله في جميع قطاعات الداخلية من آداب ومخدرات وداخل الأجهزة الأمنية السرية مثل أمن الدولة؛ كل هذا جعله رمزًا قويًا عن السلطة الأمنية. تربطه علاقة أمنية مع سليم لم يعلم بها الأخير من الأصل، فكان مسئولًا عن مراقبته وكتابة التقارير الأمنية عنها عندما كان طالبًا في الجامعة مما سمح له بالاطلاع عن قرب على حياة المواطن بشكل واسع حتى أنه كان يسرد له تفاصيل شديدة الخصوصية وكذلك معرفته بكل تفاصيل المنزل الذي يعيش فيه المواطن.
الحرامي:
شريف المرجوشي الشخصية التي تعبر عن الثقافة الشعبية والطبقة الأكثر عددًا في المجتمع وما يمثله من تناقضات أخلاقية، فعلى الرغم من أنه يعيش بجوار "حياة" دون زواج لأن أجرة المأذون غالية فهو لا يُمانع سرقة تمثال فني من أي من البيوت الفارهة ويقوم بتغطية جسد التمثال لأنه يرى في ذلك ستر للعورة، كما أنه كما أشار في أول أغانيه بالفيلم يرفض سرقة فقير/محتاج بكونه يعاني نفس المأساة. وبعد خروجه من السجن يقرر المرجوشي التوبة عن السرقة إلا أنه يقوم بسرقة المواطن بعد أن قام الأخير بطرده من بيته. ويظهر الجهل بالفن من خلال الحرامي والذي يعبر عن قطاع عريض من المجتمع حيث لا يرى أي عبرة فيما يقدمه الفن الحالي من مشاهد زنا وكفر لا تفيد أحدًا بقدر ما تضر لذا يقوم بحرق الرواية التي كتبها سليم.
* أصل الحكاية:
-"فقط المخبر هو من يحق له أن يعرف المواطن والحرامي سويًّا، بكونه يحمي الأول من إجرام الأخير" هكذا يري ضابط القسم. وعليه كان فتحي عبد الغفور هو حلقة الوصل فيما بينهم الاثنين.
في صباح أحد الأيام يخرج المواطن سليم سيف الدين من منزله فلا يجد سيارته في مكانه فيتجه نحو قسم مصر الجديدة الذي يقع في دائرته وهناك يستقبله المخبر فتحي عبد الغفور الذي يسترسل في الحديث ليذكره بفترة سابقة في حياته ومن ثم يقوم المخبر بمساعدته في العثور على السيارة المسروقة، وعندما تفلح مساعي المخبر يجدون السيارة وعليه يطلب منه أن يتوسط لمن يعرفهم من وسائط حتى يتسنى لابنه الأكبر أن يتوظف.
وفي صباح يوم آخر يفيق المواطن من نومه على أجراس الباب ليجد المخبر أمامه وهو يشكره على خدمته له في توظيف الابن وبأنه جاء ليرد الهدية والتي كانت "حياة" الفتاة التي ستقوم بالأعمال المنزلية كافة، وعليه تبدأ الحكاية.
تبدأ "حياة" عملها سريعًا وفي صمت حتى أن سليم لم يشعر بوجودها كثيرًا، حتى تختفي فجأة لفترة قصيرة ومن ثم تعود وهي محملة بالأسرار الكثيرة والغامضة، يستمر وجود حياة في المنزل دون مشاكل حتى تفصح له عن الخيالات التي تراودها عندما تخلد للنوم مساءً. تتعرض لوعكة صحية تجعلها تلزم الفراش فيهتم لأمرها سليم حتى يصبح بينهم جو من الألفة يجعلهم يتقاسمان الفراش سويًّا، ومن هنا تبدأ القصة بشكل أعمق.
حياة والتي لا تختلف كثيرًا عن المرجوشي وغيرهم من أبناء هذه الطبقة فهي لم تكمل تعليمها أو ربما لم تتعلم من الأساس تعمل خادمة في المنزل وهي على علاقة جنسية بالمرجوشي كما أنها لم تمانع إقامة علاقة مماثلة مع سليم. والتي في يوم حفلة إتمام عمل الرواية قامت بسرقة بعض المقتنيات غالية الثمن ليلًا وكذلك الرواية التي مثلت الصراع فيما بين الطبقات من خلال الثقافة طوال الفيلم.
بعد معرفته بجريمة السرقة استطاع المخبر أن يٌعيد المسروقات للمواطن لكن الرواية لم تكن من ضمن الأشياء. وللمرة الثانية يقوم المخبر بإدخال سليم وسط عالم هذه الطبقة المغلف بالجهل والفقر ليجمعه مع شريف المرجوشي للمرة الأولى والذي رأى كما رأت حياة أنهم يجمعهم صداقة لم يتحسس أثرها المواطن، فهو لم ير في حديثه مع المرجوشي عن أخلاقيات الفن وما يجب أن يقوم به في المجتمع، لم يترك لدى المواطن سوي أثر الجهل والتخلف مما أسهم في اشتعال الصراع فيما بينهم حتى مشهد حرق الرواية وفقع عين المرجوشي.
لماذا مواطن ومخبر وحرامي؟
استطاع عبد السيد أن يقدم تحليلًا سينمائيًا للمدينة بعد أن تغيرت من خلال تبدل حال الشخصيات وانغماسهم في الواقع الجديد بعد الرفض لمرات عدة من قبل المواطن "سليم" إلا أنه في النهاية قد اقتنع بأهمية وضرورة الاشتباك مع واقع المدينة الجديد.
فالمواطن قد اقتنع بفكرة العمل الفني الأخلاقي بعد أن بدأ يتقدم في العمر وبات يشعر بأن كلام الحرامي حول المرجعية الأخلاقية والدينية التي يجب أن يتم ترسيخها في عقول القراء تمثل نوعًا ما من المنطق، والحرامي كذلك أصبح مالكًا لدور نشر تهتم بنشر الكتب والروايات التي يستفيد بها الناس والمجتمع لما فيها من مغزى ديني وأخلاقي حتى أنه أصبح الناشر الحصري للمواطن. والمخبر صاحب الفضل في الجمع فيما بين الاثنين "المواطن والحرامي" أصبح عصريًّا أكثر؛ حيث إنه ترك عمله كمخبر وأصبح يتسلق درجات السلم الاجتماعي الجديد الذي تبدل فيه حاله من مخبر بقطاع الأمن إلى أحد أهم رجال الحزب الحاكم وذلك من خلال تقديم الخدمات لمن يحكمون المجتمع الجديد.
والثلاثة أصبحوا يقيمون في بيت واحد يتعايشون فيه سويًّا حتى أن أولادهم يشكلون جيلًا جديدًا متوحد الثقافات والطبقة على الرغم من الاختلاف الجذري للخلفية التاريخية لكل شخصية من الثلاث.
في النهاية ربما يكون نشر الفيلم على المنصة مرة أخري بعد كل هذه السنوات هو دعوة لإعادة النظر في الشكل الذي كان عليه المجتمع المصري قبل تطبيق سياسات الانفتاح وما بات عليه شكل المجتمع بعد ذلك؛ وما أصبح عليه في يومنا هذا.
فالفيلم الذي لا يفضله الجمهور العادي للسينما يمثل أحد أهم أفلام الألفية الجديدة من حيث النوع السينمائي الذي قدمه عبد السيد في وصف المجتمع الذي سوف نصل إليه، ويعد دراسة أنثروبولوجية للمجتمع والمواطن المصري.