القاهرة 05 يناير 2021 الساعة 08:31 ص
كتبت: نضال ممدوح
تنهض رواية "مقام الدرديري" وهي أحدث الإصدارات الروائية للكاتب الطبيب "رأفت الخولي"? والصادرة عن دار النسيم للنشر? على فكرة الموت من أجل الحب? فأهل البلدة الذين يعانون من شظف العيش وثقل الأعباء? لا يتوانون عن حب الولي الذي لم يشاهده أكثرهم? متيقنون أن الخير لن يرد إلَّا على يديه? والدعاء عند ضريحه والتقرب به إلى الله? لون من من ألوان العبادة? والرحلة إليه وزيارة ضريحه والتطواف حوله في ذكرى مولده أقرب ما تكون إلى حج بيت الله الحرام? حتى وصل ظن بعضهم إلى أن من أكرمه الله بحج بيته الحرام لن تكون حجته مكتملة إلَّا إذا أتمها بتلك الزيارة مصطحبا أهله ومحبيه ليكونوا شهودًا على تمام الفريضة.
يسير الراوي عبر أحداث الرواية ساردًا كل تفاصيل الرحلة? فالنوق والجِمال تحمل الرجال والسيدات? في طريق طويل يمر على قرى وكفور ونجوع ويستغرق قطعه سبعة أيام? معهم الزاد مما نذره أهل البلدة للشيخ "الدرديري" الذى يقع ضريحة ضمن عشرة أضرحة تتفرق فى مقابر القرية? لكنه الأعلى بنيانًا والأرحب باحة وصاحب الذكرى التي ظلت تتعطر بها النساء? ويتجلى بها الرجال فى أبهى صورة? ولمَ لا وقد كان "الدرديري" نفسه حال حياته هو صاحب فكرة الركب السنوي المسافر إلى طنطا? بصحبة الرجال والنساء والغلمان من المريدين الذين أحبوا "الدرديري" كل هذا الحب? واعتبروا رحلته السنوية إلى شيخ العرب مفتاحًا لحل أزماتهم? بل كان هو نفسه فى نظرهم صاحب الدعوات المستجابة? والبركات المنبثقة على أهل البلدة بكل طوائفهم? لكنَّ شرود حفيده ووارث عهده أضاع تلك المكانة الطيبة فى نفوس الناس? وذلك بأفعال تجاوزتْ حد الأدب مع الدنيا والتجاوز مع الله لدرجة هجره المساجد وتعاطيه المخدرات طيلة العام وحتى في أثناء الرحلة.
تبرز جلية في بداية الحكي صورة "أشجان"، تلك الفتاة الجميلة التى أحبها الرواي والتى صارت بحكم فقدها المبكر لأمها ثم لأبيها فى باكورة عمرها ربيبة في بيتهم بحكم صداقة جده لوالدها? الذي أوصاه بها خير وصية، وكان الجد قبل مماته قد أوصى بها الجدة والابن الوحيد - والد الراوي وأخوته -? لكنَّ هذا الأب لم يكن من القدرة على تنفيذ الوصية? بل لم يكن من القدرة على رعاية أبنائه أنفسهم? الذين تفرقوا على صغر سنهم بين مصانع الطوب والفاخورة من مطلع الشمس حتى مغيبها? يكدون من أجل لقمة العيش؛ إذ كانت حصتهم من نذور الدرديري لا تكفى بالكاد سوى أشهر قليلة? وعليه فقد زوَّج والد الراوي أشجان لفتى من عائلة الشعراوي كان رفيقًا له في رحلاته إلى أضرحة الأولياء? على غير طبيعة عائلته الأجلاف الذين لم يقدموا يومًا قرشًا واحدًا لصندوق نذور الدرديري.
ويقع الأب بهذ التصرف في خطأ كبير غير معترف بحب ابنه لتلك الفتاة والذى أخبرته به والدة الراوي وهي المطحونة مع جدته من أجل تربية الأبناء? أخبرته بذاك الحب النقي فى إحدى لياليها الصافية مع زوجها المسافر دائمًا مع الركب من بلد إلى بلد? رفيقًا لحفيد الدرديري المارق عن سُنَّة أبيه وجده? مما حدا بالفتى أن يصاب بألم نفسي شديد أخرجه عما رباه عليه جده وجدته? فيواقع الفتاة ـ بعد أن أصبحت زوجة ـ مدفوعًا بالحب والغريزة فى باحة الضريح الطاهر? ودون أن يكون هناك مخرج أو حل لتلك المعضلة فى نظرهما سوى أن تُطلَّق من زوجها ليتزوجها.
لكن النهاية المأساوية أن الفتاة ماتت كمدًا من أجل حبها? بعد أن اعترفت لزوجها في لحظة ضعف بما حدث بينها وبين الراوي? إذ يطردها زوجها الذي لم تنجب منه لتعود إلى بيت أبيها مكلومة وتغلق الباب عليها حتى تفارق الحياة من أجل الحب? وتصير أمثولة بين أهل البلدة والبلاد المجاورة لأولئك الذين يموتون بحبهم سواء للولي الصالح أو للحبيب المرتجى.
الرواية تسير فى خطيّ سردٍ يتوازيان طيلة الحكي? أما الخط الأول فهو وصف لحياة الدرديري ومنشئه وكراماته وكيف تحول بسبب نسكه وارتباطه بالله من ذل العبودية إلى أفق الحرية الرحيب بمساعدة مالكه الذى لمس فيه ذلك فأعتقه? ثم سار فى حب الأولياء يرافقه مَن وثق بتقواه من أهل البلدة متنقلًا من كفر إلى كفر ومن نجع إلى عِزبة? زائرًا لأضرحة الصالحين وعاشقًا لهم إلى أن ابتدع رحلة البدوي إلى طنطا? يتنقل فيها هو ومريدوه بين البلدان ووصولًا إلى الضريح الأحمدي لقضاء أسبوع كامل إلى جواره? يتخلل ذلك وصف البلدان التى كان يمر بها هو ورفاقه? وكيف كان أهلها يحبونه ويمدونه بنذورهم عبر طريق طويل ينتهي إلى قرية "كفر سيجر" المجاورة لمدينة طنطا? والتي يُقام بها الاحتفال السنوي وتنتهى الزيارة بالليلة الكبيرة ليعودوا بعدها.
أما الخط الثاني فهو معاناة الراوي مع أب لا يعطي أمور حياته حقها من التقدير والاهتمام? إلى درجة جريه خلف حفيد الدرديري في رحلاته إلى كل ربوع البلاد? وإهماله أبناءه وتركه أمر تربيتهم إلى أبيه الفلاح المكافح الذى يشتغل بالأجرة في حقول الناس? ثم من بعده لجدتهم التي تنازلتْ عن صحتها ثمنًا لتربيتهم حتى ماتت ثم إلى والدتهم المكدودة? التى دفعتْ ثمن حبها لأشجان وأمنيتها أن تكون زوجة للراوي? دفعته أطنانًا من الدموع من أجل ابنها ومحبوبته وهي الوحيدة التى كانت أمينة على هذا الحب.
"مقام الدرديري" رواية تنقلك إلى عالم القرية وما به من معتقدات بائدة? وما به أيضًا من فقر وعِوَز وصل إلى حد إصابة معظم أهلها بوباء التيفوس? الذى قضى على نصف سكانها إبَّان ظهور الدرديري على سطح الحياة ولم يستطع أحد أن يفر منه سوي الذين تبقوا من الموت? بعد دعوات الدرديري ورجاءاته إلى السماء والتى كانت في نظرهم إحدى الكرامات التى جعلتهم يتعلقون به ويرتفعوا بشأنه إلى مقام الأنبياء.