القاهرة 05 يناير 2021 الساعة 08:21 ص
عاش الذكريات: صلاح صيام
في حياة كل مبدع ذكريات جميلة أحيانًا وحزينة غالبًا.. تبقى عالقة في الذاكرة لتذكرنا بكل ما هو مؤلم وجارح.. الشاعر الثائر "بابلو نيرودا" يقول عن المذكرات: إنها تسجيل لصور فوتوغرافية؛ أما الذكريات فهي تسجيل لوحات تشكيلية من صنع فنان نحت الألم في قلبه الكثير..
في هذه السلسلة نحاول الغوص فى أعماق المبدعين، نستخرج ذكرياتهم المحفورة في الذاكرة والتي لا تختفي بفعل الزمن أو أشياء أخرى.
واليوم موعدنا مع المبدع الجزائري"بلقاسم عقبي":
حُدد لي تاريخ إجراءعملية فى العين يوم 6 سبتمبر 2020 لإخراج الماء الأبيض من العين اليسرى، وأما اليمنى لم تكن ترى جيدًا، فتداخلت في نفسي مشاعر الفرح والخوف في نفس الوقت .
شهر كامل تقريبًا وأنا أفكر هل أجريها أم لا خوفًا من الفشل وأن أفقد البصر؛ وبالتالي أفقد وظيفتي كأستاذ بعد 25 سنة في الفصل وأن أفقد الكتابة – الشعر.
ولكن بفضل الأهل والأقارب الذين شجعوني على إجرائها بقولهم: أنت من الأول لا ترى بها فماذا ستخسر إن أجريتها؛ ربما تنجح وتعود أفضل من قبل، كما أن هناك الكثير من الذين أجروا مثل هذه العمليات والنسبة كانت 90% نجاحًا.
تمر الأيام والتاريخ يقترب، وفي يوم 5 سبتمبر قررت إجراءها متوكلًا على الله، وفي ليلة الذهاب للمستشفى تزاحمت المشاعر المتناقضة في نفسي فكانت القصيدة التالية وليدتها فقلت:
قَدْ أَعُودُ
...
سَأَرْحَلُ عَنْكَ يَا حَرْفَ القَصِيدِ
وَأَتْرُكُ فِيكَ مِــــنْ قَلْبِي العَنِيدِ
....
جِمَارَ العِشْـــقِ تُوقَدُ مِنْ قَوَافٍ
فَتُشْعِلُ فِي حَنَايَا الرُّوحِ عِيدِي
....
عَشِقْتُكِ يَا حُرُوفَ الشِّعْرِ دَهْرًا
فَزِيدِي فِــي حَنِينِ القَلْبِ زِيدِي
....
يُعَذِّبُنِي الفِــــــرَاقُ إِذَا طَوانِي
كَطَيِّ الرَّاحِ مِـنْ وَرَقِ الجَرِيدِ
....
فَأَهْرُبُ مِــــنْ لَظَاهُ إِذَا دَعَانِي
فَيضْرِمُ فِــي الوِصَالِ بِلاَ وَقِيدِ
....
أُوَدِّعُ فِيكَ يَا حَرْفِــــي شُجُونِي
وَأَسْأَلُ عَنْكَ بَعْدَ النَّـــــأْيِ بِيدِي
...
سَيَغْدُو النَّأْيُ عَنْــكَ فِي ذِمَامِي
إِذَا مَـــا عُدْتُ مِنْ حُزْنِ الوَرِيدِ
....
وَأُزْهِرُ فِيكَ مِثْــــلَ الزَّهْرِ لَوْنَا
وَأُرْقِصُ فِيـــكَ بِالأَوْتَـارِ غِيدِي
....
فَلاَ أَدْرِي إِذَا مَـــــا العَوْدُ آتٍ
وَأَنَّ العُمْــــرَ مِــنْ عَهْدٍ جَدِيدِ
....
سَأصْنَعُ مِنْكَ بِالأَسْفَارِ عِطْرِي
أُعَطِّرُ مِنْكَ فِـي الأَحْلاَمِ جِيدِي
.....
وَأُبْرِئُ مِنْكَ فِـي الأَحْزَانِ دَائِي
وَأَجْعَلُ مِنْكَ فِــي قَلْبِي وَلِيدِي
....
سَأَقْرَأُ فِيكَ دُمْــــــعَ العِشْقِ حَيًّا
وَأُدْفَنُ فِيكَ إِذْ تَغْـــــدُو وَعِيدِي
....
وَأَمَّــــــا الصّحْبُ أُودِعُهُمْ بَنَيَّا
مِنَ الأشْعَارِ فِـــــي وَرَقٍ عَدِيدِ
....
إِذَا مَا عُدْتُ أَكْتُبُ فِــي بَيَاضٍ
إِذَا مَــــــا غِبْتُ يَكْتُبُنِي بَرِيدي
....
وَدَاعًا يَا بُحُـــــور الشِّعْرِ حَتَّى
يَعُودَ القَلْبُ مِــــــنْ قَلْبٍ شَرِيدِ
....
وبعد فراغي من كتابتها استلقيت في فراشي في انتظار موعد الحافلة 02:00 ليلا لأذهب لمدينة "ورقلة" والتي بها المستشفى التي سأجري فيها العملية، وكان الأطباء كوبيين ومعهم المترجمون الجزائريون.
وصلت الحافلة وركبت فانطلقت نحو المدينة والرحلة تدوم حوالي 3 ساعات، أطفأ السائق النور، فغرقت أنا في احتمالاتي وحيرتي إلى أن يأخذني بعض النوم ولم أفق إلا بعد أن قيل لنا: وصلنا .
نزلت في المحطة حوالي 5:30، صليت الصبح ثم ذهبت، ولكوني سأجري العملية لا بد أن أذهب للمستشفى صائمًا لكي يأخذوا من الدم للتحاليل؛ لأنهم لا يقبلون تحاليل المخابر الخاصة .
أخذت سيارة "تاكسي" ووصلت المستشفى وبالباب لابد أن نظهر بطاقة الموعد، دخلت مع الداخلين وهم كُثر، جلسنا في قاعة الانتظار بعد أن سلمنا بطاقات الموعد، وفي الثامنة تمامًا بدأت المناداة ليدخل واحدا واحـدا يأخذون الدم للتحليل، بعدها نجلس في قاعة الانتظار، وحين تظهر نتيجة فإن كانت صالحة للعملية ننتقل إلى قاعة أخرى نمر بعدة فحوصات كالضغط مثلًا. بعدها أدخل كل شخصين لغرفة، نغير ملابسنا ونلبس لباسًا خاصًّا معقمًا بعد الاستحمام ثم نستلقي في الفراش الخاص.
يمر اليوم والليلة استعدادًا للعملية ويأتون من حين لآخر ينظفون لنا العين المُعَدَّة للعملية. وحين يأتي موعد الغذاء أو العشاء يأتون لنا بهما، وفي الليل يأتون كل ساعتين يراقبون ويضعون لنا قطرات خاصة ...
في تمام 6:30 صباحا في شهر سبتمبر ينادون اخرجوا أمام غرفكم.. يمرون علينا ويسلمون لكل واحد ملفه الخاص.. بعدها أخذونا لغرفة خاصة باردة جدًّا يقيسون لنا بها الضغط 3مرات، بين المرة والأخرى حوالي نصف ساعة، فمن وجدوا ضغطه منتظمًا يمر للمرحلة التالية ما قبل الدخول لغرفة العمليات ..
وصلت لهذه العملية وليس في قلبي سوى قولي: الله أكبر والدعاء .
في كرسي متحرك أخذوني لغرفة العمليات وأدخلوني ثم وضعوني في سرير العملية، وكان خلف رأسي الطبيبة التي أجريت لي العملية، وفي الجهة اليمنى طبيب آخر يراقب أثناء العملية، وفي الجهة اليسرى المترجم الذي يترجم لي إن طلبوا مني ألا أتحرك أي حركة معينة في العين..
غطوا جسدي كله ولم يتركوا سوى فتحة فوق العين المقصودة بالعملية ...
بسبب الماء الذي كان في عيني كان النور الأبيض الذي طلبت مني الطبيبة أن أنظر إليه كان أصفر...
وضعوا على العين آلة تمنعني من أن أغمض الجفنين، ثم قالت لي: انظر للضوء. بدأت قطرات تقع على عيني حوالي 3 دقائق وكان ذلك هو التخدير الموضعي، بعدها طلبت مني أن أنظر إلى الأسفل، وبآلة الليزر أحسست أنها تشق شيئًا في عيني، ثم قالت انظر إلى أسفل وفعلت نفس الشيء .
بعدها وبآلة كالمقص المعكوف دقيق جدًّا أدخلته في عيني بعد أن صبت ما يشبه القطرات، ثم سحبت الماء الأبيض من عيني، حينها تغير لون الضوء الذي كنت أراه أصفر إلى أبيض
فشعرت بفرحة عارمة.
بعدها رأيتها تدخل شيئًا يشبه الدائرة مع بعض الأدوية بعد تنظيف العين من بقايا الماء الأبيض المسحوب ...
ثم طلبت مني نفس الطلب السابق أن أنظر للأسفل، فشعرت وكأنها تخيط ما فتحته بالليزر مرة أخرى، وكذلك طلبت أن أنظر للأعلى وفعلت نفس الشيء...
بعدها وضعت على عيني ضمادة وطلبت مني ألا أنزعها حتى تأتي هي بنفسها لغرفتي وتنزعها. وقالت لي: ألف مبارك لقد نجحت العملية ...
ثم أخذوني بالكرسي المتحرك إلى غرفتي..
وفي الرابعة مساء أتت ونزعت الضمادة، وكم كانت فرحتي حين رأيتها ومن معها في أحسن صورة، ولم أكن أعرف من عبارات الشكر بلغتهم سوى (?راسيا) فقلتها فأحسست بفرحتي ..
بتُّ تلك الليلة هناك بعدما أخبرت أهلي عن نجاح العملية.. وفي الغد مررت بالمراقبة الطبية ثم طلبوا مني أن أتقيد ببعض الحركات وأن أمتنع عن بعض الحركات والأمور التي قد تتسبب في انتكاسة، وفعلا تقيدت بها بحذافيرها وبعد أسبوع عدت للمراقبة، فوجدوها أحسن، ثم بعد شهر ثم الشهر الثاني للمراقبة، وكانوا كل مراقبة يزيلون عني بعض الحركات الممنوعة سابقًا، وأخيرا قالوا لي: عش حياتك الطبيعية، وفعلًا عاد النظر أحسن بكثير وعدت للعمل وللشعر.