القاهرة 31 ديسمبر 2020 الساعة 04:04 م
قصة: محمد أبو زيد
" -اطعم مسا عالكباتين"
هكذا كانت أولى كلماته في يومي الأول من عملي، لطلّته وقار خاص لم أكن أعرفه إلا بالحديث عنه من الزملاء أثناء تدريبي بالأكاديمية والتدريب التمهيدي، وفور علمهم بنزولي مكانه أخبروني: "يابختك، هتشتغل مع الأسطورة". ليس بعادتي أن آخذ الانطباع عن الأشخاص من حديث الآخرين؛ لكن مجرد أن التقيت به أصابتني الدهشة، لم يكن ذلك الشيب في لحيته من فراغ، كلما أتت فرصة للحوار معه، يتشبع لديَّ يقين أنني أمام قبطان، فذلك يقود سفينة وسط البحار وأمواجها العاتية وهذا يقود أمزجة العقول حتى ترسي لما تُريد.
ثلاثون عامًا يُـبحر في عالمه الخاص، قبل معرفته علاقتي بالقهوة كباقي الناس أشربها مع فيروزتنا وقراءتي، أما معه فقد وجّه بوصلتي في اتجاه آخر ومذاق آخر ربما، أن تشربها هذا مذاق، أما أن تتمتع بصناعتها فهذا مذاق آخر، لم أعبأ في يومي كله سوى بمراقبته فقط، والإبحار بسفينته فيه، نعم فهو القبطان والبحر في آن واحد، ذات يوم كنت أقف في الموضع المخصص لي بجانبه، لأتعلم كيف أرشد الراغبين لشراء" البُن" أتاه أحدهم مستفسرًا، وبعد بضع أسئلة وتشاور، كتب له ما يُريد وذهب العميل لدفع الفاتورة حتى ينتهي القبطان من توليفته، هُيِّئَ لي أنه لم يفعل شيئًا عما علمته، كان ظنا أحمقا مني بالطبع، لكن هناك سر؛ بعض الزبائن فور دخوله يسأل عنه.
- فين السني؟
نازعني فضولي لسؤاله، ضحك ضحكته الموسيقية الطربة، كصوته الذي كان دومًا يشدو به، بأنغام عبوهاب وثومة، حتى وصل الأمر أنني ظننت ربما السر في غنائه أثناء تحضير "توليفته"!
لكنه أجاب: الحب، لأن عالم البن يا بُنيّ كالروح إذا مزجتها بالحب ستعطيك ما تريد بحب، وضرب لي مثالا..
- مين فينا مش بيحب "ثومة"؟
- الغالب بيحبها
- البن كده بالظبط
- إزاي؟
- ثومة هي البنَّان، والكلمات والموسيقى هي حبوب القهوة هي عشان بتحب الغنا غنت بحب والبنَّان كده لو حب البُن هيطلّع أحلى توليفة والزبون يقوله عظمة على عظمة على عظمة ويجيلك من آخر الدنيا
كلماته كانت بسيطة كظاهر هيئته، وفي بساطتها فلسفة عميقة لم تكن فقط هذه فلسفته بل مع الحب البنّاء، وهذه كانت مهنته من قبل وقبلها في تلميع النحاس، وأرى أنه بالفعل يبني كل يوم في خبراته، وأمزجة زبائنه، ويُلمّع عقول الحيارى بطرب توليفته، إنّه القبطان البحار وهو البحر، وهو البنَّاء والقلعة التي بمجرد أن تطرق على بابها، يطرق عقلك بفنجان قهوته، ويَعبر بكَ بسفينته كالذي يعبر بك في وسط المحيط.. إنه القبطان طارق السُني.