القاهرة 29 ديسمبر 2020 الساعة 11:22 ص
كتب: طلعت رضوان
نجح علماء العلوم الطبيعية فى التغلب على (قانون الجاذبية الأرضية) فجعلوا الحديد يطير.. ويــُـحلق فى السماء (الطائرات وسفن الفضاء) وهذا الإنجاز لم يتحقق إلا ّبفضل (ملكة الخيال) وبذات تلك الملكة التى انفرد بها الإنسان، استطاعتْ الأديبة الفرنسية (لينوردى روكوندو) أنْ تــُـحلق فى (سماوات الخيال) وتركب أجنحتها لتنتقل من قرننا الحالى، لتحط عند القرن الخامس عشر.. وهوالقرن الذى عاش فيه الرسام والنحات والمهندس والنحات الشهير(مايكل أنجلو1475- 1564) لتتعرّف على المجتمع الذى عاش فيه.. وعلى أصدقائه.. وعلى معاناته.. إلخ.. وهى تستعد لكتابة روايتها (الحجر الحى) الصادرة عن دارمسكيليانى بتونس عام2017.. والمبدعة لكى تــُـعمق معرفتها بحياة هذا الفنان.. كان عليها الرجوع لعدة مصادر.. وأهمها: المؤرخين الذين أرّخوا لحياته.. ومن بينهم المؤرخ جيوفيو.
بدأتْ المبدعة روايتها بتقنية ملفتة للنظر، حيث كان بطلها مايكل أنجلو ((يواصل مداعبته للضوء)).. وبعد هذا التمهيد تبدأ فى خلط الواقع بالخيال، فعندما طلبه الكهنة لتشريح جثة صديقه (أندريا) قال: (يستحيل التشريح لخلو الكفن من الجسد) فإذا به يسمع صوت المتوفى يقول: إنّ جزءًا كبيرًا من الجسد قد رافق روح الطفل.. وهى تتملص منه وتــُـحلق نحو السماء.. وبالرغم من ذلك فإنّ مايكل أنجلو يخاطب صديقه المتوفى.. ويسأله: أندريا هل أنت الراقد تحت ناظرى؟.. وأضاف: أنت الجمال الصرف وكمال الملامح.. وتناسق العضلات.. وعندما دخل مشرحة الدير ظلّ يــُـردّد نفس الجملة، وتذكرعندما رآه لأول مرة، حيث تخيله صورة من المسيح.. وهكذا كانت المبدعة ترسم للقارئ شخصية بطلها مايكل أنجلو..وتعلقه بصديقه أندريا..وبحثه الدائم عن معرفة أسابب موته.. وحتى عندما سأل (كل) رهبان الدير التزموا بالصمت، فى إيحاء بلاغى من المبدعة عن حدوث (جريمة) والجميع يتكتمون عليها.. وفى المشرحة ارتجف مايكل أنجلو، حيث داهمه شعوربأنه قبض على سر العبورمن الحياة إلى الموت.. وخاطب الجثة قائلا: أندريا أنت الجمال السرمدى فى أكمل صورته.. وأود لو أنّ جسدك يغدو حجرًا. الحجر هو الوحيد الذى أحسن معالجته.. وأعرف كيف أتملكه.. هنا فإنّ المبدعة -بأسلوب الإيحاء ودون إفصاح- تــُـذكر القارئ بأسطورة بجماليون.. وعشقه للتمثال الذى أبدعه.
وفى إيحاء آخر، فإنّ المبدعة - وبشكل عفوى- تجعل مايكل أنجلو يتعلق بالفتاة (كيارا) صاحبة الصوت الملائكى.. وهى تغنى وتحكى عن فتاة جميلة أقسمتْ أنْ تتزوج النهر.. ولما توقفتْ عن الغناء إذا بمايكل أنجلو يشعر بخدر فى وجهه.. ويبدى إعجابه برهافة حس كيارا، الفتاة غيرالمتعلمة.. والتى تعبر بكل رقة عن عواطفها.. ولكنه يغالب عاطفته نحوها.. ويعود إلى شطحاته فينادى صديقه الميت.. ويقول له: لا تتركنى. فهل كانت أغنية الفتاة كيارا الممزوجة بالعذوبة هى من أيقظت خيالاته، لدرجة أنْ أجرى حوارًا بينه وبين أدريا الميت.. ويقول له: لا تتركنى أواصل الظن بأنك هنا معى.. وطلب منه أن يبتعد عنه.. ومع ذلك خاطبه من جديد قائلا: أنت الجمال الذى لن أبلغه بأزميلى. هل الطبيعة تتفوّق على فنى؟.. هنا إيحاء جديد من المبدعة لربط ذلك بأسطورة بجماليون الذى ظلّ يتشكك فى (موهبته).. وبالرغم من إعجاب كل من رأى تمثاله عن المرأة التى أحبها.. وأنّ هذا الإعجاب شمل كل من الإلهة فينوس.. والإله أبولو، فإنّ بجماليون لم يرض عن تمثاله وحطــّـمه، فى رسالة من كاتب الأسطورة عن أنّ الفنان الحقيقى يحاول تحقيق أقصى درجات الكمال فى إبداعه.. وهكذا كان مايكل أنجلو الذى كان الرخام يلين تحت أزميله.. ولهذا وصفه البعض بأنه (سيد الرخام).
وعندما كان يتأمل تمثاله الذى منحه اسم (تمثال الشفقة) وقف أمامه متردّدا ويتساءل: هل اكتمل؟ أم تنقصه بعض اللمسات؟ وبالرغم من استغراقه وهو يتخيل صورة السيدة العذراء، إذا بصورة صديقه أندريا تقتحم تخيلاته.. ويراه ((بشحمه ولحمه)) ويتساءل: أميتٌ هو أم نائم؟ ولأنه يعتقد بأنّ وفاة أندريا وراءها جريمة قتل، لذلك كتب رسالة للراهب جويدو(خادم الرب) قال له فيها: أنت الصلة الوحيدة التى تربطنى بأندريا، فقل لى: كيف مات؟ أعتقد أنك تــُـخفى عنى شيئــًـا. أخى جويدو: اعلم أنّ أندريا يعيش داخلى وجسده العفيف يحملنى إلى ما هو أبعد مما تتصوّر. إنه يحاصرنى داخل فجوة الحياة والموت.. ويأخذنى إلى الجمال السامى.. وأنا مدرك أنّ جسده يتحلل داخل حفرة حقيرة فى الدير.. ولكنه فى ذهنى أكثر حياة من أى وقت مضى.. وإنى أشبه جسده من إبداع النحاتين الذين سبقونى، فى محاولة لاستنساخ جسد المسيح المصلوب حيــًـا.. ونشكله برخامنا وننفخ فيه جماله السرمدى..وعندما كان يطالع إنجيل يوحنا، استغرق فى النظر طويلا وهو يتأمل اللون الأزرق للكتابة.. وشعر أنّ هذا اللون هو لون عينى أندريا.. وخاطبه قائلا: أندريا، يداى تلامسان الغلاف، حيث تركتْ يداك بصماتها..والكلمة صارت جسدًا.
وفى إشارة دالة ذكرت المبدعة أنّ مايكل أنجلو، أثناء حديث الكاهن، عن أنّ أندريا مات بعد الوباء الرهيب الذى ضرب الدير.. وفى سبيل مجابهة الموت.. كان يكتب عبارات ((من إنجيله)) أى أنّ أندريا- بإيحاء أدبى بديع- وصل لمرتبة القديسين وترك إنجيله الخاص.. ولعلّ هذا ما يــُـفسرتعلق مايكل أنجلو به.
يتسق مع ذلك محور آخر ألقتْ المبدعة الضوء عليه.. هو محور التزمت الدينى، حيث اعترض رئيس الديرعلى تشريح الجثث.. وأثناء الكوارث كان بعض الرجال يجلدون أنفسهم فى الشوارع (كى يتخففوا من خطاياهم، يقينــًـا منهم أنّ هذا الوباء من بوادر يوم القيامة.. وكانت رقصة الأموات فوق جداريات كنائسهم، تساعد على حفظ تلك الصور لعدم نسيان هولها.. والفتاة (أنتونيلا) عاتبت شقيقها ميشيل.. وقالت له: كيف يمكن للبابا أنْ يثق فيك.. وأنت تــُـجـدّف فى بيته؟ وعندما ذهب مايكل أنجلو إلى الكنيسة، سأله كبير الكهنة: ما الذى جاء بك؟ ردّ عليه: اطمئن يا أبتى.. هى رغبتى فى الاحتماء بظل المسيح. وأشارإلى صورة المسيح المصلوب.. وهويقول: إنه فى غاية الجمال، فغضب الكاهن ونظرإليه نظرة قاسية على ما بدر منه.
ويبدو أنّ المبدعة وهى (ترسم) شخصية بطل الرواية النحات العظيم، رأتْ أنْ ترسم بجانبه شخصية صديقه الثانى (كلفالينو) الذى يظن نفسه (حصانــًـا) ويعتقد أنّ أبناء جنسه منحدرون من حيوانات مختلفة الأنواع.. وعندما سأله مايكل أنجلوعن أحواله قال: حصانك جميل.. إننى أتعرق.. ومقطوع الأنفاس.. وفرسى البيضاء التى أعشقها هى الأجمل.. وأغنى فى أذنها قصائد الحب التى علــّـمتنى أمى إياها.. ولما سأله: وكيف حال أمك؟ قال: إنها فرس عجوز محطمة.. ولم تعد تعدو؛ لأنّ مفاصلها تؤلمها. استأذن كلفالينو وأخذ حصانه وابتعد، بينما مايكل أنجلو يبتسم.. وعندما اقترب كلفالينو من صخور الجبل، ورأى العمال وهم يجبرون الثيران على جر الأحجار الضخمة، صرخ فيهم: ألا تخجلون من سوء معاملتكم للثيران؟.. ولما طلب العمال منه أنْ يتركهم ليعملوا، قال لهم: هذا ليس عملا.. هذا تعذيب. إنّ الثور صاحب القرن المعقوف قال لى إنه لم يعد يحتمل العذاب والشقاء.. وقال للعمال: هل نسيتم أنّ ثمانية عشر ثورًا ماتوا أثناء العمل، بسبب قسوتكم عليهم. طلبوا منه أنْ يعود إلى بيته.. وتوجهوا إلى المحجر لتقطيع الرخام. اعترض طريقهم وقال: لن أسمح لكم بالمرور.. وسوف أستلقى فى عرض الطريق.. وليس أمامكم إلاّ العبور فوق جسدى.. حمله بعض العمال.. وأبعدوه عن موقع العمل، فصاح فيهم وهو يبكى: أنتم ذئاب.. ومع ذلك أنتم أخوتى.
أعتقد أنّ هدف المبدعة من شخصية كلفالينو توظيف الفانتازيا، ليكون هذا الإنسان الذى يعتقد أنّ بنى جنسه من البشر منحدرون من حيوانات مختلفة.. وبالتالى هو تجسيد أو رمز لقسوة الواقع فى زمن مايكل أنجلو.. وأنّ الرخام الذى يحصل عليه، يدفع ثمنه ليس العمال الذين يسقطون صرعى أثناء العمل (فقط).. وإنما الثيران أيضــًـا تلقى نفس المصير.. وكانت المبدعة موفقة تمامـًــا عندما جعلتْ كلفالينو يقول للعمال: أنتم ذئاب، ومع ذلك أنتم أخوتى.. وهنا تأكيد على توظيف الميتافيزيقا، فهذا الشخص يؤمن بوحدة الكائنات الحية، فهو حصان وإنسان فى نفس الوقت.. وعندما قال له مايكل أنجلو مداعبـًـا: لم أسمعك تصهل، رد عليه بجدية: حوافرى تزداد هدوءًا.. والسبب أننى أدركتُ أنّ كل ما لا يلمس الأرض هو فى السماء.. وقد اكتسبتْ حوافرى خفة الريش..وعندما ذهبتُ لرؤية فرسى البيضاء، قلت إنّ رموشها ترفرف وتلتحم بالغيوم.. وقريبـًـا تلامس أذناها القمر.. وللمرة الأولى أرى الحب فى عينيها.. استمر مايكل فى مداعبته حيث سأله: هل الكلاب تغطيها السماء؟ تجاهل السؤال وقال: مايكل لمَ أنت حزين؟ حوّل نظرك إلى داخلك وسوف تكتشف روحك.. وبقى مايكل وحيدًا..وقد أغرقته بصيرة صديقه ليفكرفى (حجره الحى) وشعر أنه أسيرا لأحجار.. وعاد للقرية ليرسم.. واجتمع عدد كبيرحول قبر البابا.. ورأى أنهم يمثلون الصراع الدائم مع الزمن.. ومع الموت.
مايكل عندما طلب منه كبير الكهنة تصميم مقبرة البابا.. وعندما رأى صغار الكهنة يتسارعون فى إحضار الرخام قال: إننى لن أدع هؤلاء المغرورين يختارون الرخام، ولو فعلتُ ذلك فإننى أرتكب حماقة مداهنتهم وتملقهم، فقال له أحدهم: مازلتَ يا مايكل حاد الطباع.. وربطتْ المبدعة ذلك وهى ترسم شخصية بطلها فذكرت أنّ مايكل كان يطيب له أنْ ينتقل من ((مجالسة البابا)) إلى ((مجالسة الناس البسطاء)) كما أنه كره نقابات الرسامين والنحاتين المتزمتين.. وتمنى لو يتفرغ لكتابة الشعر.. وكان من المعجبين بأشعار الشاعر الإيطالى بترارك (1304- 1374) الملقب ب (أب الإنسانية) والذى كتب للسماء.
انشغل مايكل بعطرامرأة.. وهذه المرأة هى فى إحدى المرات أمه.. وفى مرة أخرى عشيقة.. ولكنه لا ينساها بالرغم من أنه تأثر بغنائها حيث قالت: من حفرة صنعها البحر فى الرمال/ أخرج الطفل قوقعة بيديه الناعمتين/ قرّبها من أذنه/ أراد أنْ يمسك الموج/ ويجنى زبد العطر.. وبالرغم من أنّ عطر أمه هو العالق فى أنفه، فإنه يعود ويتذكر المرأة التى ما يزال عطرها عالقــًـا بأنفه.. وملأتْ ضحكتها أذنيه.. وغمرتْ كيانه.. وصاح: أين أنت؟ هبة الضحك ذكرى ثانية.. وأهداه نشيد العطرضحكة النرجس.. وتذكر أنه وهو فى الخامسة من عمره، أنّ يدًا غاية فى الرقة، حـدّثته عن النكهات والحب، سمعها، شمها، تذوّقها.. وتساءل: متى يراها؟ هنا فإنه يعود إلى طفولته والحنين لحضن أمه.. وفى طفولته.. وتحت تأثير الحب كان ينحت بيديه الصغيرتين طيات الرداء.. ولم تنس أصابعه العاطفة الجياشة لتلك اللحظات.. وهنا فإنّ اللمس ذكرى رابعة: محمولا فوق بهجة الفرح، ركض الطفل إلى طريق الأحجار، ترك مخاوفه ولعبه، غرق فى عناق حار.
وعندما كبر قال (فى وحدته): يا لها من سعادة تلك التى شعرتُ بها.. ووجهى يلمس الأرض.. وأفرح عندما أجد صديقى كلفالينو(الإنسان/ الحصان) هو من بقى لى.. ولم يتخلّ عنى.. وعندما أكون وحيدًا، أشعر بأننى ممتلئ بالآخرين.. وأعيد إليهم الحياة بأزميلى. أنا كتلة من رخام.. وأضم داخلى شخصا آخر، يناضل كى يخرج من جسدى، فهو يرغب فى الهواء الطلق، جسد سيتخذ شكل تمثال إلى الأبد.. وما أكثر المخلوقات داخلى. أنا هـُـم.
وبينما تلاحقه ذكريات العطر.. والمزج بين عطر أمه وعطرالمرأة التى رفض التواصل معها.. وإنْ احتفظتْ ذاكرته بعطرها.. ومع ذلك نظر للسماء فرآها مفعمة بالعطر، ولكن هذا العطرابتلعه دخان الجحيم عام1497.. وفى ذاكرته المحرقة التى بدأت بحرق سافولانا (1452- 1498) الشخصية المثيرة للجدل، فهو فقيه مصلح فى نظرالبعض، وأصولى متزمت فى رأى آخرين.. وكانت نهايته المأساوية بإعدامه حرقــًـا فى فلورنسا عام1498، لأنه هاجم البابا إسكندرالسادس.. ودعا لدستورعلى مرجعية دينية.. وقد تأثر به كثيرون، بما فيهم مايكل أنجلو فى شيخوخته الكئيبة.. وهو يقرأ مواعظ سافولانا على أمل العثورعلى السلام النفسى (وول ديورانت فى قصة الحضارة- المجلد15، ولويس عوض فى كتابه: ثورة الفكرفى عصرالنهضة- مركزالأهرام للترجمة والنشر- عام1987- ص74، 168) وهذا يدل على أنّ المبدعة رجعتْ لمصادر عديدة لتعرف طبيعة المجتمع الذى عاصره مايكل أنجلو.. وهذا ما يســّـر لها أنْ تكتب روايتها البديعة.