القاهرة 22 ديسمبر 2020 الساعة 10:15 ص
بقلم: حاتم عبد الهادي السيد
حظى الأدب العربي القديم عبر عصوره بتجارب عمَّدت الحب العذرى، وخلَّدَتهُ في عقولنا وقلوبنا، فهذا هو "قيس" أو "مجنون ليلى" عندما سألوه: ما اسمك؟ قال: ليلى.. وهذا "عنترة بن شداد" يجوب الصحارى والقفار ليأت بالنوق العصافير مهر عبلة الكبير من بلاد الملك النعمان البعيدة، حيث الأهوال في صحراء المفاوز؛ وطريق الموت الذى لا مهرب منه، لكنه يعود "بإرادة الحب" لينتصر، ويفوز بحبه إلى الأبد، وهذا قيس لبنى الذى اندغم اسمه في اسمها بالحب فأصبح يهوى في عراء وبراح البراري يلهج بحبها، ولا يذكر سواها، وهذا "ريف وآمور" في الأدب العالمي، و" كيوبيد" إله العشق، وغير ذلك من ملاحم وقصص وأشعار خلدت قصص الحب العذري الجميل على صفحات التاريخ.
واليوم يعود لنا الشاعر والروائي والقاص محمود الطائي بتجربة مماثلة في العشق والسياسة والفلسفة والحياة، عبر رواية شعرية، أو "سرد روحى" يفيض فيه يراعه بالجمال، وبالحزن الآسن والجراح ليقدم " قصة حداثية جديدة للعشق" من منظور فيلسوف، وعاشق حتى الثمالة في "امرأة الهديل والبوح"، في ذات تستلبه طوال الوقت، يصدح من أجلها بأبياته، وعبر مسروديات بوحه، فرأيناه يعبر الفيافى، ويمتشق حسام جلجامش، ويقابل " كيوبيد " على جبل الحب المليء بالأسرار، والذى يمده بهدير لذيذ، وشوق ملتاع، وروح شفافة، فنراه يكتب لمحبوبته، عاشقته، أجمل الأبيات، وأسمى الواصفات التى تخش إلى غلالة الروح، فنتنسم العبير النورانى والسحر الذى عبر عنه عبر مثيولوجيا السرد الدافق الجميل.
لقد عبر بنا محمود الطائي جبالاً ووهاداً، وصحراوات، ومدناً وقارات، وسبح مع طائر الفينيق عبر عنقاء روحه الهائمة في محراب الخلود، فكان هدهد سليمان، ونوح وبوح الورقاء وهديلها، وكان الكروان الصادح للنور عبر شمس الحياة، وعبر جسور الروح التى تضم لبلابة الحب المعقوفة بقلب حبيب توَّاق، ينزع إليها، ويكتب لها أشواق مهجته، ويحلم بوصال بعد جفاء.
إنه الحب الذى تمكن بالقلب، فقرأ كل كتب الحب القديمة والجديدة، فهو "أنكيدو" المسكين " وعابر السرير – أحلام مستغانمى" المسكين، لا يطول ولا يطاول، ولا يضمه دفء المحبوب ، بل نراه يزعق في بَرِّيَّةِ السكون والعدم يبحث عن اليقين والبرهان، الحقيقة عبر الحلم الذى طال ولم يتحقق ، فكأنه يهذى في فضاءات وبراحات العالم، ويعود إلى ذاته فيجترح روحه التى أدمتها القروح، وسالت الدماء على شفتها والجروح، فلا طبيب سواها، ولا أنيس غير وجهها، ولكن أين له هذا، وهو البعيد القريب؟! وهى الغائبة الحاضرة والمتمثلة لكل روحه، والعافقة زمردة قلبه المسكين، الذى ناء بحمل لا تتحمله الجبال، فغدا مجذوباً بحبها، وناسكاً عبر محرابها، وصوفياً عبر مرافئ روحها، وطوَّافاً حول كعبة قلبها البعيد.
إنها تجربة وجدانية، تعبر عن فلسفة روحية، تستقطبنا وتستلبنا؛ فنغدو معه عاشقين لهذه المحبوبة، لكنه لا يقبل شريكاً في الحب سواها، ولا يهرع إلا لظلالها، فرأيناه يعبر الصورة إلى الظل، والظل إلى لانهائى ممتد، يناجيه، يرسل لها بكل آيات الحب، وبكل ما أوتى من جلال الشعر ودفق السرد، وموسيقا الحياة، لكنها هناك بعيداً في مجهول / معلوم، تعيش بعيداً لكنه يستمد منها كل مقومات الحياة، فهى إنجيله وقرآنه، وكتابه الذى لا يرجو سواه، وهى النور والنار، والظل والمحال، والحقيقة والخيال، هى الوجود واللاوجود، وهى العشق الذى لا يضاهيه عشق.
إنها قصته، كما يقول، عبر "سيرة الحب الذاتية"، يرويها بروحه، ويسطرها بقلبه؛ لأنها جاءت من قلبٍ صاف، وجدول نهر مهراق، لعاشق يهرق عمره من أجل الحب، والمعشوقة الهيفاء ، الحسناء، ذات الخال المتخايل على وجهها الصبوح، عبر بوح شهى لذيذ يأخذ بالألباب، ويخش إلى الأفئدة، ويريق الجمال نهراً.. يقول: "هذا أنا عُمري ورق حُلمي.. ورق ضوءٌ طريدٌ في عيون الأُفقِ؛ يطويه الشفق.. نجمٌ أضاء الكون يوماً واحترق".
لقد قسم الطائي كتابه إلى عدة أقسام – كما يذكر– يقول: "الكتاب مكون من واقع ثلاثة أجزاء ؛ ناهيك عن الإهداء؛ والمدخل، والجزء الأول منه هو بمثابة التمهيد للدخول في الأحداث؛ والجزء الثاني كان الجزء الأكبر من كل الأجزاء؛ وذلك يعود لكمية الأحداث التي حدثت على الصعيد العام؛ والمؤثرة على الصعيد الخاص، وأما الجزء الثالث والأخير فقد كان أقل بقليل من الجزء الثاني؛ لكون الأحداث بدأت بالتقلُص تماماً حيث بدأت مرحلة الهدوء الهشّ؛ وأما الخِاتمة فلم تُحبك؛ ولم أجد لها حلاً؛ نتيجة الظروف الراهنة؛ وغموض من كُنت أكتُب لها فلسفتي".
هو إذن يجاهر بما يكتب، ويعلن للقارئ صدقه عبر فلسفته، وواقعه عبر تجربته الكبيرة لذلك الحب الآسن الجميل الذي لا يطاوله حب، ولا يعلوه مكان، فقد قبس من كل الألحان وغرَّد لحنه الكروان لذاته فأمتعها وأمتعنا معه، وأبكاه وأبكانا معه، وجعلنا نتوه معه في براري العالم بحثاً عن حب لدينا مضى، أو ماضٍ جميل؛ لذكريات عشناها جميعاً، وهنا عبر التماثل تنتج تشاركية القارئ عبر رحلته الأثيرة الجميلة.
ولنا أن نتخير بعض كلماته لنر جماليات الحب، وصدق ما يكتب، وبهاء الحرف الأثير، يقول:
ألا ليت شعري
هل تقرأ تلك التي أحببتُ عيونها قصائد شعري
سيانِ عندي إن قُطِعَ الود الذي بيننا أو اتصل فلن أَبرِحَ عن حُبي
وسأكتُب لك بقلمي المجروح فلسفتي
وأظل عاكِفاً على كتابةِ شعري
سأجمع شتات أحرفي الضائعة وأُسطِر بها إلياذةَ حُبي
سأُنظِمُ في عينيك ِالجميلة بويتات قصائدي
سأُزخرِف المُفردات بِجناس عشقي
سأتسلق مُرتفعات خصرِك للوثوب إلى معالِم حُسنكِ
سأرسم تفاصيل وجهك بــ ألوان لوحة دافينشي
سأنقُش أبجدية اسمِك على ياقوتي وزُمُرّدي
سأطلق سراح مشاعِرك لتفُلَّ قيدي
وأعزف الأصداء فويق مسرح حُبي
وأختم بمعزوفة بيتهوفن عزفي
سأتعلم الترجمة عند ابن ناعمة الحُمصي
كي أُترجِم للعالم فلسفة قمري.
ولعلنا نلمح ترجمته للمقدمة والإهداء ليندغم الحب بكل اللغات، لكننا رأيناه يعتز بلغته العربية التى لو ترجمت سيضيع معناها، لذا آثر أن يقدم بلغة أخرى وكأنه يقول لها: "أحبك بكل اللغات أيتها العاشقة الجميلة، سندريلا روحى العاشقة ".
يظل محمود الطائى نهراً يرفدنا بالعطاء والحب، عبر نورانية محب، عشق وباح، فخرج بوحه الصادق وثيقة حب مختومة برهق العشق وسيمفونياته، ووضاءة تتوضأ بالجمال، عبر بحر الحقيقة النورانى لتجربة تمثل ذاته / حياته، قلبه الصغير الأخضر المتفتح للعشق عبر بوابات النور والظلال، فأهلا بكاتب وفيلسوف وشاعر الحب، والعاشق للكون والعالم والحياة.