القاهرة 08 ديسمبر 2020 الساعة 09:52 ص
بقلم: زادى سميث
ترجمة وإعداد: سماح ممدوح حسن
"إذا خُيّرت بين اللياقة والبهجة، فاختر البهجة"
تجيب الكاتبة "زادي سميث" عن سؤال ما الذى يتعلمه الكتّاب من أعظم الراقصين فى التاريخ، فى كتابها "كن على راحتك" وهو مجموعة من المقالات المذهلة التى كتبت فيه وقالت:
"تسيطر على ذهني مؤخرا تلك العلاقة بين الكتابة والرقص، وهى بمثابة القناة التى أود الإبقاء عليها مفتوحة دائما. فالعلاقة بين الكتابة والرقص دائما ما يُستخف بها، مقارنة بالعلاقة بين الموسيقى والنثر، ربما ذلك بسبب أن علاقة الكتابة والرقص غير مألوفة، لكن بالنسبة لي، فإن هذين الشكلين من الفن قريبان جدا من بعضهما بعض. فدائما ما أظن أن الرقص يخبرنى ما يجب علي فعله".
تعتبر"زادي سميث" أن الأرضية المشتركة بين هذين الفنين تتباين فيما وراء ما هو ظاهر وتقول:
"ما الذي يمكن لفن الكلمات أن يأخذه من الفن الذى لا يحتاج إلى أي شيء؟ ومع ذلك غالبا ما أفكر إنى تعلمت من مشاهدة الراقصين تماما كما تعلمت من القراءة، فدروس الرقص للكتّاب هى دروسا فى المكانة، والسلوكيات، الإيقاع والاسلوب، بعض هذه الدروس واضحة تماما والبعض الآخر غير مباشر".
تبدأ "زادى سميث" فى استكشاف هذه الأبعاد من خلال مجموعة من التناقضات بين اثنين من أشهر الراقصين فى التاريخ، بداية من "فريد أستر، وجين كيلي" وقالت:
"فريد أستر، يمثل الأرستقراطية عندما يرقص، كما قال "جين كيلى" نفسه فى فترة الشيخوخة قال "بينما كنت أنا أمثّل البرولتاريا" وكان هذا الفرق والتميز منصفا على الفور، على الرغم من صعوبة تحديد السبب لذلك، فهل كان السبب هو طول القامة، أو النحافة، والأناقة، والبنية العضلية الرياضية؟ لكن بالنسبة للملبس فالمسألة واضحة فالقبعة وذيل الجاكت، فى مقابل القميص والبنطلون العاديين.
لكن "فريد أستر" أحيانا كان يرتدي القميص والبنطلون، ولم يكن حقيقة بهذا الطول، لكنه كان يقف منتصبا كما لو كان بهذا الطول الفارع، وحتى عندما كان يتحرك كان يحافظ على اعتدال قامته تلك، ليظهر أطول من أي مستوى آخر، أطول من الأرض، والسقف وحلبة التزلج ومنصة الفرقة.
لكن بالنسبة ل "جين كيلى" كان مركز ثقله أقل بكثير، فقد كان يثني ركبتيه، ووركيه للأسفل، فبينما كان "جين كيلى" مرتبطا بأرض الرقص كان "فريد أوستر" يُحلق حرا طليقا، وعلى نفس المنوال تكون العلاقة بين الأرستقراطية والبرولتاريا، فكلاهما تربطهما علاقة مختلفة بالأرض تحت أقدامهما. فالأرستقراطية تتحرك بسلاسلة فوق سطح العالم، لكن البرولتاريا مرتبطة بمكان معين، مثل مبنى سكني، أو مدينة، أو قرية، أو مصنع أو الحقول الممتدة.
عندما أكتب، دائما ما أشعر أني بين خيارين، بين ما هو مرتبط بالأرض وما هو محلقاَ فوقها، وفى هذه الحالة فإن الأرض هى اللغة التى نلتقى بها فى نمطها المنطقي، لغة التلفزيون، السوبر ماركت، الاعلانات، الصحف، الحكومة، الخطاب اليومي العام، فبعض الكتاّب يحبون السير على هذه الأرض، وإعادة انشائها، وكسر أجزاء منها وإعادة استخدامها لصالحهم. فى حين أن البعض الآخر بالكاد يدركون وجود هذه الأرض.
فالكاتب الروسي "فلادمير نابوكوف" أرستقراطي حرفيا، كما هو جماليا، لكن بالكاد وضع أصبعا على ذلك النوع. فلغته "أدبية" بعيدة عما نعتقد أنه بيتنا اللغوي المشترك، ربما تكون حجة الدفاع عن مثل هذه اللغة الأدبية هى الطريقة التى تعترف بتصنّعها فيها، فى نفس الوقت لغة العموم تدّعي أنها واضحة وطبيعية "محادثية" لكن غالبا ما يتم بناؤها بشكل سطحي كما تحب الوكالات الإعلانية أو الخطابات الحكومية وأحيانا بكلاهما، وفى الوقت عينه تكون اللغة عاطفية وقسرية، فعبارات مثل "أميرة الشعب، أو المجتمع الكبير، أو لنجعل أمريكا عظيمة مجددا" وهذه تسمي اللغة المنطقية، تتحدث بنفس الطريقة التى يتحدث الناس بها بشكل طبيعي، لكن أي كاتب سيهتم حقا بالطريقة التى يتحدث الناس بها، سوف يجد نفسه مصنفا على أن له أسلوبا مميزا، أو أنه ساخر، أو أنه تجريبي. و "صامويل بيكت" كان هكذا، وكذلك الكاتب الأمريكى المعاصر جورج سوندرز".
تختتم سميث المقارنة بين أستر، و كيلى كالآتى:
"اقتبس كيلى ما هو مألوف عندما كان يرقص ليذكّرنا بالنعمة التى نمتلكها. لكن فريد أستر هو "شِعر فى حالة حركة" حركاته بعيدة عن حركاتنا لدرجة أنه يضع حدا لطموحاتنا. فلا أحد يطمح أو يتوقع أن يرقص مثلما يرقص أستر، تماما كما لا يتوقع أحد أو يطمح أن يكتب مثل نابوكوف".
الآن تحكي "سميث" عن مسؤليات الكتّاب التى تكون إما متوازية أو عمودية للتمثيل والبهجة وذلك من خلال التناقض بين الأخوة هارولد و فاريرد نيكولاس. وقالت:
"الكتابة مثل الرقص، فهى أحد الفنون المتاحة لمن لا يملكون شيئا. فكما قالت "فرجينيا وولف" مقابل ستة شلنات يمكن للمرء شراء أوراق تكفي لكتابة مسرحيات شكسبير كاملة" وبالنسبة للرقص فكل ما تحتاجة للرقص هو جسدك. فبعض أعظم الراقصين فى العالم جاء من عوالم وخلفيات متواضعة. فبالنسبة للراقصين السود صعدوا على الرغم من التعقيدات المتعلقة بالعِرق، لكنهم صعدو على خشبة المسرح أمام أقوامهم المناصرين بالإضافة لناس آخرين. ففى هذه الحالة أي وجه ستظهره لهم؟ هل ستكون على طبيعتك؟ هل ستظهر أفضل ما لديك؟
لم يكن الأخوة نيكولاس من أطفال الشوارع، بل كانو أبناء موسيقيين حصلوا على تعليم جامعي، لكنهم لم يتدربوا قط على الرقص رسميا. فقط تعلموا الرقص بمشاهدة والديهم وزملاءهم عندما كانوا يؤدون عروضهم على مسارح "شتلين" حيث قُدمت عروض "الفودفيل* الأسود" ولاحقا عندما أدخلوا إلى السينما كانت عروضهم جزءا من الفيلم، وتُصور حتى لو لم يكن لها علاقة بقصة الفيلم، لذا عندما كان يتم عرض هذه الأفلام فى الجنوب كان يمكن أن تقطع مشاهد هذه العروض دون أن تضر بحبكة الفليم. لقد كانت عبقرية حبيسة مسيّجة، لكن أيضا عبقرية لا يمكن إنكارها.
"سامي ديفز جونيور*" قال "موهبتى كانت سلاحى وقوتي والطريقة التى أقاتل بها. وهى الطريقة الوحيدة التى تمنيت أن تؤثر فى تفكير الرجال "كان دايفز طرازا آخر من فنانين ال "شيلتين" الأصليين، وظهر فى ظروف صعبة، وكانت فلسفته هذه مألوفة للغاية، وهو شيء فى عقيدة نوع من العائلات التى لديها ممتلكات قليلة. فالأم تعلّم ابنها أن يكونوا "الأفضل" كما كانت تخبرهم بأن يكونوا "ذوو موهبة لا يمكن إنكارها" وأمى اعتادت أن تخبرنى الشيء ذاته. وعندما كنت أشاهد "الأخوة نيكولاس" أتذكر دائما هذه التعليمات" كن الأفضل" وكان "الأخوة نيكولاس" أفضل بكثير جدا من غيرهم. كانوا أفضل من أى أحد له الحق أو يريد أن يكون. وقد علق "فريد أستر" على أدائهم فى فيلم "طقس عاصف" بأنهم أعظم مثال على الرقص السنيمائي الذى شاهده على الإطلاق. حيث كانت الرقصة عبارة عن تقدم الراقصين أسفل سُلّم عملاق وبعدها ينقسمون، كما لو أن الانقسامات هى الطريقة المنطقية للوصول إلى مكان ما. كانوا يرتدون ملابس أنيقة، أداؤهم كان أكثر من مجرد تمثيل، كانوا محترفين وممتازين. لكنى دائما ألحظ اختلاف بسيط بين "هارولد، وفايرد" وهذا يثير اهتمامى وأعتبره نوعا من الدروس، بالنسبة لى، أرى أن "فايرد" يهتم بمسؤلية التمثيل أكثر عندما يرقص، يبدو التمثيل كأجزاء، بل هو جزء من أصيل من رقصه. ولياقته لا يمكن تعويضها. فهو رسمي، وشامل، ولا يمكن إنكاره تقنيا. كأنه يبدع فى التسابق. لكن "هارولد" كان يسلم نفسه للبهجة. شعره هو حكايته، فعندما كان يرقص كان يحرر نفسه وشعره من المُثبت الذى يستخدمه، ويستخدمه الراقصون، وتتحرر الخصلات المجعدة الأفريقية والتى لم يحاول حتى التخلص منها. بين اللياقة والبهجة اختار البهجة".
من بين أساليب الرقص المتناقضة التى درستها "زادي سميث" الخيارات الأسلوبية والمفاهيمية والجمالية المختلفة التى يجب أن يتبناها الكاتب، كانت أسلوب "برنس مقابل أسلوب مايكل جاكسون، وأسلوب جانيت جاكسون مقابل أسلوب مادونا، ومادونا مقابل بيونسيه، ورودولف نوريف مقابل أسلوب ميخائيل باريشينكوف. ثم ذكرت سميث خيارات "ديفيد بيرن، وديفيد بورن" بشكل منفرد فى الاختيار الذى يوضحانه من خلال المساحة السلبية، وتقول سميث:
"الفن غير الراقص هو درس حيوي، فأحيانا يكون ضروريا جدا أن تكون مُحرجا وغير أنيقً، متشنجا، وألا تكون شاعريا أو مبتذلا، أن تكون سيئا بشكل إيجابي، وللتعبير عن الاحتمالات الأخرى التى يمكن أن تقوم بها الأجسام، والقيم البديلة، والتوقف عن المنطقية، فمن المثير للاهتمام بالنسبة لى أن كلا الفنانين أدوا "أسوأ" رقصاتهم. فمثلا أغنية" خذنى إلى النهر" التى يغنيها وهو يرتدى بنطالا مربعا أكثر من اللازم بعشرين مرة، وينظر للأسفل إلى ردفيه المرتعشين كما لو كانا ردفي شخص آخر، فكما لو أن بنطاله يقول هذه الموسيقى ليست لى، وحركاته تذهب إلى أبعد من ذلك: ربما هذا الجسد أيضا ليس لي. فى النهاية، المنطق يكمن فى الفكر المحرر، أو ربما فكرة أن أحدا لا يمتلك حقا أي شيءً".
تضيف سميث:
"يمكن أن يكون الناس معتزين للغاية بشأن "تراثهم وتقاليدهم" خاصة الكتّاب، بالتأكيد يجب حماية هذه الأشياء وحفظها، لكن لا يجب أن تمنع من التحرر والتداول، فجميع التعبيرات الجمالية متاحة لكل الشعوب تحت شعار الحب، يظهر حب "بايو، وبيرن" الواضح لما لم يكن ملكا لهما، زوايا جديدة بأصوات مألوفة. فلم يخطر ببالى قبل أن أرى هذين الرجلين يرقصان، أن أحدا يمكن أن يختار على سبيل المثال الرقص على إيقاع الطبول سوى ببعض الحركات تتقوس فيها الأجساد وتطابق حركاتهم بكل انسجام وحرارة. لكن اتضح أن ذلك ممكن: تمايل بزاوية غريبة وتشنج فجأة مثل بايو، أو تساءل عما إذا كان هذا حقا ذراعك مثلما يقول بيرن".
هوامش:
*عروض "الفودفيل الأسود. هو نوع من الترفيه شاع بشكل رئيس فى الولايات المتحدة فى أوائل القرن العشرين، ويضم مزيجا من الأعمال الكوميديا الهزلية، والأغاني والرقص.
*صموئيل جورج ديفيس جونيور(1925_1990) مغن وراقص وممثل، ممثل فودفيلي وكوميدي أمريكي. وعُرف بأنه أعظم فنان ظهر على هذا المسرح فى أمريكا. والذى بدأ حياته على ذالك المسرح وهو فى سن 13 مع والده.
*كان السبب الرئيس فى قطع رقصة من أحد الأفلام للراقصين السود، هو الحرب الأهلية الأمريكية، حيث كان الجمهور الأبيض يرفض ظهور السود فى الأفلام التى كان يشاهدها، لذا فكان المنتجين يضعون الرقصات فى الأفلام ليُعرض الفيلم متضمنا الرقصة فى بعض المناطق وتقطع الرقصة فى مناطق أخرى.