القاهرة 24 نوفمبر 2020 الساعة 10:13 ص
بقلم: سماح ممدوح حسن
ينبئ عنوان رواية "النوافذ الزرقاء" لعادل عصمت إلى ما سوف يسرده متنها، من المعروف أن فى فترات الحروب يلجأ الناس إلى تعتيم وطلاء نوافذ بيوتهم باللون الأزرق وذلك تجنبا للغارات الجوية من العدو، ونوافذ عادل عصمت الزرقاء عاصرت ثلاث حروب "النكسة، والاستنزاف، ثم نصر أكتوبر" وكل حرب تُطلى النوافذ لتزداد قتامة، وتزداد التغيرات.
تدور الرواية حول ذكريات الطفولة والمراهقة والشباب للراوى، حيث يستعيد شريط حياته منذ الطفولة فى بيت الجدة فى طنطا، وحتى الاغتراب فى بلد خليجي فى الكبر، حجر الأساس بالرواية هو التاريخ الشخصى ومن ورائه نرصد التغيرات السياسية والانقلابات الاجتماعية التى طرأت على المجتمع المصري فى تلك الفترة، والذى رمز كل فرد من أفراد بيت الجدة إلى تغير ما فى ذلك المجتمع.
البيت والموت والجدة
تحضر فى الرواية ثلاث عناصر رئيسية وهي "البيت، والموت، والجدة" كل منهم له الأثر الأبلغ فى حياة بطل الرواية والراوى. البيت شريك الطفولة، والمستقر، والعمر الهانئ، والذى يحن إليه البطل فى كل دقيقة من غربته فى الدولة الخليجية التى يعيش فيها، ودائما ما يؤنب نفسه ولا يعرف لما لا يعود إلى ذلك البيت!
أما الجدة فهى عمود البيت والرواية معا، حاضرة فى كل التاريخ الشخصى والعام المسرد فى الرواية. جدة البطل لأمه "ثريا" التى توفت وتركته هو وأخيه وأخته فى عهدة الجدة التى ربت الجميع حتى توفت. السيدة التى فقدت ابنها الأكبر "فؤاد" فى حرب 1967، والذى تغير عالم البيت وساكنيه بموته ولم يعد شيئا كما كان عليه أبدا. وعلى الرغم من الحضور الطاغي للجدة فى الرواية إلا أن البطل يعترف بالتغيرات التى نالت أيضا من ذاكرة الجميع، فلم يكن متأكدا تماما ما إن كانت ذكرياته عن الجدة حقيقية أم من نسج خياله، وهل بقية العائلة تذكر أيضا الجدة كما كانت حقيقة أم أن كل واحدة منهن رسم لها صورة ذهنية مختلفة عن البقية؟ وذلك كما اعترف البطل أيضا بتلك الفكرة القديمة التى غرست فى عقله ربما من حكايات الجدة نفسها عن أن الناس عندما يموتون يتشكلون فى أرواحا حرة تظهر كما تشاء!
أما الموت، فهو ذلك اللغز الأبدي الذى حيّر كل عالم الرواية وعالم "عادل عصمت" الذى أظهره فى كل الكتابات. لكن الموت مع تلك العائلة كان مختلفا، فقد كما لو أنه عقد مع هؤلاء الأشخاص اتفقا. كما لو كان يتفق على موعد سفر. فيتيح لكل منهم ترتيب أموره قبل المغادرة الأبدية كما لو أنه يرتب حقيبة سفره الأخيرة. فكما أوضح الراوى أن الجدة كانت تعلم تماما موعد موتها فرتبت لتزويج ابنتها ونجحت فى ذلك وأوصت أختها بتزويج ابنها الأخير الذى كان مضربا عن الزواج، وظل مقيما فى البيت القديم محتفظا بكتب أبيه القديمة، وظل محتفظا بملابسه من موضة السبعينيات حتى أصبح غريب المظهر وسط موجة الموضة الجديدة. وما إن أنهت الخالة أيضا من تنفيذ الوصية حتى ماتت بعدها بأيام معدودات. فهى الأخرى قد شملها الموت الذى لا يخبر عن موعد مجيئه.
كأنما الموت كان جزءا من هذا البيت، صديقا حميما، فهو لم يكن يخفي تماما من يأخذهم. فقد كانت الجدة ترى ابنها وزوجها المتوفيين وتتحدث إليهما كما لو أنهما لا يزالا حيين. وهى نفسها ظهرت لابنها فى غرفته بعد موتها بساعات مما جعله غير واثق تماما ما إن كانت قد ماتت حينها أم لا!
اختلافات مجتمعية وأسرية
تسرد الرواية الاختلافات التى طرأت على المجتمع المصرى فى فترة ما بعد نصر اكتوبر والانفتاح، وسفر الجميع للخارج، وتغيّر، بل وتفكك العلاقات الأسرية، والتى نالت من بيت الجدة حيث سافر كل فردا فيها إلى وجهة بعيدة تماما، ولم يعودوا يلتقون حتى فى المناسبات. من سافر إلى كندا ومن سافر إلى ألمانيا، والبطل المقيم فى الشارقة بالإمارات.
تأثرت الشخصيات بالأحداث التاريخية. فنرى كيف جُن الجار "سامي" بعد أن تاه أياما طوال فى صحراء سيناء بعد قرار الانسحاب فى هزيمة 67، وكان ضمن تائهين كُثر، وأصبح يرى العدو الصهيوني فى كل تفاصيل الحياة حتى بات خطرا على كل من حوله، وأودع فى مستشفى الأمراض العقلية، هى نفسها تلك الحرب التى استشهد فيها "فؤاد". ثم تجيء مرحلة النصر وما تلاه من تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي والاجتماعى والسياسية، وما ترتب على ذلك من تدهور اقتصادي فى الداخل وغلاء الاسعار ونشوب الانتفاضات وكان من أهمها انتفاضة يناير 1977 أو ما يُعرف ب (انتفاضة الحرامية) كما أسماها السادات بعدما تقرر زيادة اسعار الخبز واللحوم وكل السلع التموينية مما اثار غضب الشعب وخلال ساعات كان الجميع فى الشوارع يعترضون حتى تراجعت الحكومة عن قراراتها. ثم التأثيرات الاجتماعية والثقافية وما جلبته سياسة الانفتاح من غزو الأفكار المغايرة والغريبة، أو من تلك الافكار والعادات التى اتى بها المغتربون خاصة من دول الخليج، حتى أضحت البلاد غير البلاد، كل شيء فيها مستنسخ ومشوه.
الأفكار الفلسفية والرموز فى الرواية
كما فى كل اعمال عادل عصمت تحضر اللمحة الفلسفية أو ربما التأملية بقوة، فالراوى دائما ما كان يسأل، نفسه أكثر من غيره، عما إذا كان ما نراه هو فعلا ما نراه، أم أن وجودنا على شاكلة أخرى لا نفقهها. فقال فى الصفحات الأخيرة من الرواية:
"ما الذى يجعلنا متيقنين على هذا النحو الساذج من وجودنا فى العالم، وأن من رحلوا غير موجودين، أليست الصور القديمة لحياتين أشد أكثر عقلانية وأشد التصاقا بمشاعرنا من الموت؟"
أيضا تتخم الرواية بالرموز، مثل الطائر الأبيض الذى حطم الزجاج فى حادثة وقعت فى بداية الرواية مع الجدة وتكررت فى نهايتها مع الراوى، الطائر الابيض والذى يجيء جالبا وراءه الموت أو الحرية كما كان يعتقد الرواي.
النوافذ الزرقاء التى حمت البيوت من القصف لكنها لم تستطع حمايتها من عواصف التغير ربما للأسوأ، فتحطمت فى النهاية. البيت أيضا، ربما البيت والعائلة هما الشغل الشاغل فى كتابات عادل عصمت، ربما لم ينهار بيت النوافذ الزرقاء، لكنه خُرّب بقرض الفئران فى أركانه وهذا ما حدث أيضا لحياة الكثيرين ممن عاشوا فترة المتغيرات الجذيرية هذه، كما حدث تماما لأفراد البيت الذى رمز لبلد بأكمله.