القاهرة 24 نوفمبر 2020 الساعة 10:03 ص
كتب: محمد زين العابدين
لعل أجمل ما في كتب السير الذاتية أنها تجعلنا نعيش حياة الآخرين على الورق، فنضيف إلى أعمارناً أعماراً، ونستفيد دروساً بليغة من تجاربهم المتنوعة، ونستمتع بالإطلاع على المواقف الواقعية الطريفة التي تمتليء بها الحياة المدهشة، والتي تفوق الخيال أحياناً، وتتفوق على أبرع الحبكات السينيمائية، وفي النهاية نتعلم أنه بالرغم من بصمات القدر القوية على حياتنا فإن الفرص لا تأتي أيضاً إلا لمن يسعى لها.
وهذا الكتاب الجميل الصادر عن الدار المصرية اللبنانية يحكي لنا فيه المبدع وباحث الاجتماع السياسي عمار علي حسن؛ رحلة كفاحه الشديدة الثراء والمعاناة أيضاً، يحكيها بمنتهى الصراحة والصدق مع النفس، دون مواربة ودون تحفظ، وهذا يحسب له، ويضيف تميزاً لكتابه الممتع.
عامل التراحيل الذي أصر على التعليم:
يحكي عن إصراره منذ نعومة أظفاره على التعليم حتى أنه كما يقول (أدخَلَ نفسًهُ) المدرسة ذات صباحٍ بارد في عام 1973،عندما استيقظ ليجد قريته في ريف محافظة المنيا بصعيد مصر الجميل وكأنَ بها عرساً في كل البيوت التي بها أبناء يتعلمون، ومنهم أصحابه الذين يلعب معهم حافي القدمين فوق تراب الشوارع والجسر المحاذي للترعة التي يسبحون فيها بجوار البط والإوز، وفوق بساط الزرع الأخضر.
وجدهم يلبسون ملابس نظيفة ويسيرون فرحين بصحبة آبائهم نحو المدرسة الموجودة على الجسر المحاذي للقرية؛ فجرى نحوهم وسألهم عن وجهتهم، فأخبروه أنهم ذاهبون إلى المدرسة، فسار وراءهم و "كأنَّ الندَّاهة تناديه" -كما يقول- ووقف معهم في الصف بفناء المدرسة بهيئته التي جرى بها وراءهم، حافي القدمين، وعندما نادى المدَّرِس أسماء التلاميذ وعَّدَ رؤوسهم، وقف محتاراً، ثم أعاد العَّدَ ليتأكد من وجود شخص زائد، وهو "عمار علي حسن"، والذي لم يكن بالطبع مسجلاً في المدرسة، وعندما طالبه المدَّرِس بالعودة إلى أهله؛ رمى نفسه على عتبة الفصل وراح يصرخ بحرقة ودموعه تسُّحُ على خديه، وأمام إصراره ربت على كتفيه بإشفاق واصطحبه إلى مكتب الناظر الذي أمره بإرجاعه لأهله، فعاد لهم وهو يتمَّرغُ في التراب، وكان أبوهُ قد لاحظ اختفائه من القرية منذ الصباح وخشي أن يكون قد غرق في الترعة، سأله عن سبب بكائه بعد أن علم من أحد الجيران بذهابه للمدرسة؛ فقال له: "عاوز أرجع المدرسة"، كان الوالد لا يشجعه على دخول المدرسة منذ البداية، بل إنه أخرجه منها بعد خمس سنوات، بعد أن أدخله إليها إذعاناً لرغبته، واستعان أبوه بوساطة عضو بالإتحاد الاشتراكي لإلحاقه بالمدرسة.
كانت عائلة (عمار) رقيقة الحال، بعد أن كانت ميسورة، أصر على العودة للمدرسة بعد أن أخرجه أبوه منها مستعيناً بتشجيع أحد مدرسيه الذين لاحظوا إصراره على التعليم واستعداده الجيد، ولو أن عزيمته تراخت؛ لكان مصيره قد تغير تماماً، وربما لم يزِد ْ-كما يقول- على أن يكون عامل تراحيل، يجلس على قارعة الطريق، في انتظار من يشير إليه بطرف إصبعه، أو أجير، ينكسره ظهره في حقول الآخرين تحت الشمس المستعرة، وقد مارس هذه الأعمال،وغيرها من الأعمال الريفية الشاقة،مثل الزراعة، وجمع لُطَع دودة القطن، لفترة طويلة من صباه، وشبابه، معيناً لأبيه على تيسير أحوال الأسرة الصعبة، وكان يتحمل،برغم تعرضه للضرب أحياناً من (الخُولي). وأدرك أبوه، بعد سنوات؛ أن التعليم هو الوسيلة الوحيدة المتاحة، أمام أمثاله، للترَّقي في المعيشة؛فعوَّلَ عليه، وقال له في لحظةٍ فاض فيها حنانه المخبوء: "إنتَ عُكّازي" وهو يعتبرها اللحظة الأشَّد تأثيراً في صباه.يحكي أيضاً عن إصراره على التغلب على لجلجة لسانه،ولثغته في طفولته؛إلى أن تمكن في الصف السادس من أن يقيم لسانه،وتغلب على علة غريبة؛ وهي "عُسرُ الكتابة" حيث كان يكتب الكلمات العربية، من اليسار إلى اليمين (كالإنجليزية).
تفوقٌ ونهمٌ عجيبٌ بالقراءة:
يحكي عن جدِّهِ لأمهِ،البقال التمويني، الذي كان يعاونه في بقالته، ويحسبُ بمهارة كبيرة أسعار السلع التموينية، وهو يذاكرُ دروسه، وعن جدّتهِ؛ وقد لعبا دوراً كبيراً في حياته، حيث عرف عندهما الحنان، والسكينة، وتعلم مهارات الحساب، وأنصت إلى المذياع، الذي كان واحداً من خمسة،في القرية كلها. كان جده يحلم بأن يصبح حفيده محامياً كبيراً، أو قاضياً، بحكم اشتباكه مع المحاكم طيلة ربع قرن،في نزاع حول قطعة أرض، حوَّلها جده إلى جنة وارفة، مليئة بكل أشجار الفاكهة؛ وتحت ظلالها كان يستمتع بمذاكرة دروسه. لكن جده مات عام 1985، دون أن يشهد التحاقه بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، رافضاً -بطبيعته المتمردة إيجابياً- الالتحاق بكلية الحقوق، ولا الإذعان لرغبة والده في التحاقه بدار المعلمين، ليضمن تعيينه كمدرس. كان منتشياً بتفوقه، وكونه من أوائل الجمهورية، ووعد أبوه بتحمل نفقات تعليمه من كدِّه، إلى جانب دراسته؛ لكن أباه لم يتخل عنه تماماً، فكان يساعده بكل ما يستطيع. ولكى يتكفل (عمار) بجزء من نفقات الجامعة؛ عمل في الحقول، وكعامل معمار، في بنايات المدن بالقاهرة، والتي -كما يقول- كانت تعلو طوابقها على أكتافه ورفقائه. ومن أطرف المواقف التي يحكيها؛ مطاردته للعِجل السمين، الذي كان مصدر دخل للأسرة،عندما يبيعونه بعد تسمينه، لأحد الجزارين، حيث قطع العِجل رسنه، وراح يعدو، وهو وراءه،ل اهثاً، مصِّراً على إمساكه؛ إلى أن أطبق عليه قبضته، بعد معركة عنيفة، تعرض فيها للركل منه.إحتجزه بين أعواد القصب، وأمسك بساقيه،وهو يرفعه ، ويرميه، إلى أن لف الرسن حول عنقه، وسحبه خلفه عائداً بانتصاره!.كان يقسم وقته بين مساعدة أبيه في الأعمال الزراعية،ولعب الكرة مع أقرانه ،وقراءة الكتب بنهم، تحت ظلال الأشجار، حتى أثناء العمل بالحقل، لم تكن الكتب تفارقه، وظل هذا النهم بالقراءة، ملازماً له طيلة حياته؛فكان يقرأ ماشياً في الشارع،وفي وسائل المواصلات، وكثيراً ما كان يتعرض لحوادث، بسبب هذا العشق. وكان ينفق كل ما يدخره من نقود قليلة، لشراء الكتب من سور الأزبكية، أو سور كلية زراعة القاهرة. وفي لفتة هامة؛يطالب دور النشر الحكومية بالإفراج عن عشرات الأطنان، من الكتب المكدسة في مخازنها،و لا يتم تصريفها، بسبب القوانين المعوقة؛ فهذه الكتب موَّلها دافعو الضرائب، ومن حقهم الإطلاع عليها، بدلاً من إتلافها.
لهوٌ بريء ونشأة صوفية ونجاة من الموت بأعجوبة:
من بين الذكريات الممتعة التي يرويها؛ألعاب الطفولة الريفية البريئة، والتي كان يمارسها مع أقرانه، ومنها "السيجة" وصناعة مراكب من بوص الذرة الجاف، بشراعٍ من ورق، وتعويمها في مياه البركة، وصناعة عجلات من أغطية زجاجات المياه الغازية، بعد ثقبها. كان البعض ينظرون له في صباه، كدرويشٍ صغير، وكان يشارك في طقوس الحضرات الصوفية،التي تقام بقريته في المناسبات الدينية،وكان يقرأ مع صديق له (دلائل الخيرات) والأشعار الصوفية. كان حريصاً أيضاً على الذهاب إلى سينيمات المنيا الثلاث، القريبة من مدرسته الثانوية. ويحكي عن عرض سينيمائي، أقامته الثقافة الجماهيرية بقريته، على جدران الجمعية الزراعية، ومن أطرف ما حدث للفلاحين، المندهشين بما يرونه؛ عندما كان هناك مشهد لقطار مسرع يملأ الشاشة، وكأنه يعدو باتجاه المشاهدين؛ فهب أحد الفلاحين مذعوراً،وجرى بين الصفوف، معتقداً أن القطار الجامح سيدهسه!.ويحكي عن نجاته من الموت بأعجوبة، عدة مرات؛ منها مرة في مصر،عندما جرفه موج الترعة المندفع بقوة، وهو يسبح فيها، إلى أسفل قنطرة يلامسها الماء، وهو يصنع دواماتٍ تؤرجحه، وظل يقاوم، ويطفو، بأنفاسٍ مبهورة، ونجا بأعجوبة، حين دفعه الموج الذي تهادى قليلاً،إلى أحراش البوص المجاورة للشط، فتشبث بها. ومرة في الإمارات؛ عندما خرج من شقته، متوجهاً لعمله بمركز (الإمارات للدراسات، والبحوث الإستراتيجية)؛ ليجد نفسه يلتقط كيس النفايات، الذي وجده ملقى في المطبخ، ليلقيه في ماسورة التخلص من النفايات ، الموجود في البناية، ليسقط في مستودع لها بالدور الأرضي، ليأتي جامعو القمامة، ويأخذونها؛ إلا أنه عندما فتح الباب الجانبي المؤدي إلى هذه الماسورة، إذا بالباب ينغلق عليه، وتفشل كل محاولاته لفتحه، وكاد يموت اختناقاً في هذا الحيز الخانق، المحصور به، ولم ينقذه إلا جارة له، من عرب إيران السنة، سمعت دقاته على الباب، وصراخه، ففتحت له الباب من الخارج، وكانت زوجته نائمة.
طبيعة ريفية عنيدة ودروسٌ مستفادة:
تؤكد السيرة الذاتية للمؤلف، على طبيعته الريفية،الصعيدية، العنيدة، واندفاعه في إبداء آرائه بصراحة، وعزة نفس؛ والتي بسببها تعرض للظلم كثيراً، سواء عندما كان طالباً في الجامعة، وتعرض للرفد، أو في عمله بوكالة أنباء الشرق الأوسط، وتعرض أيضاً للإيقاف عن العمل، وحرمانه من مخصصاته المالية، ومن الترقية لفترات طويلة. ويلخص طقوسه في الكتابة و الحياة، وأهم الدروس المستفادة، بأسلوب عذب، يغلفه الشجن، للرد على رجل قابله في ميدان التحرير، أثناء الثورة، ولم تسعفه الأجواء المحمومة بالميدان، للرد على أسئلته.يقول: "إنني حين أكتب، أغوص في نفسي لأصنع بهجتي العابرة، وسط حزني المقيم،وتشي تجربتي في الحياة؛ بأنني إنسان بسيط، يئن تحت ثقل أحلامه، ويشغله طوال الوقت؛ أن يهش تجار السياسة،عن الوطن، وتجار الدين، عن الورع، والأدعياء، عن الجلوس فوق رؤوس الموهوبين.ويعتبر أن الحياة مجرد رحلة قصيرة،السعيد فيها، من يترك عليها علامة، دون أن يظلم أحداً. إنني أبكي حين أناجي ربي، وحين أصطاد الحرمان، والألم؛ في عيون الجوعى، والمرضى، والغرباء، وحين تجيش عواطفي،بنصٍ جميلٍ قرأته، ويمكن للبكاء أن يداهمني؛ وأنا أرسم أوجاع شخصيات قصصي.علمتني الأسفار؛ أن كل الناس لآدم، أفراحهم، وأتراحهم واحدة -أو على الأقل متشابهة- كما علمتني أن ألتقط المعرفة من أفواه الناس، مثلما ألتقطها من بطون الكتب، وأنني خسرت معارك صغيرة كثيرة؛ لكنني تعودتُ أن أحَّوِلَ هزائمي، إلى انتصارات ٍ-ولو بعد حين-وأنني في النهاية يجب ألا أكف عن الحلم،حتى الرمق الأخير".