القاهرة 17 نوفمبر 2020 الساعة 10:36 ص
كتبت: سماح ممدوح حسن
فى مجال التمثيل السنيمائي والتلفزيونى، إذا نجح الممثل فى جعل الجمهور يكرهه أو بالأحرى يكره الشخصية التى يجسدها، فهذا يدل على براعة الممثل. تماما كما نجح الكاتب "أحمد مجدي همام، فى روايته عيّاش" فى جعلنا نكره بطل روايته "عياش" ونشمئز من العالم الذى يحيا فيه. وهذا إن دل إنما يدل على براعة الكاتب فى صياغة حكايته.
لكل مهنة انتهازيون، ومتسلقون، لكن عندما يعج بهؤلاء عالم الصحافة المفترض أنها أداة التوعية وتشكيل وعي الجماهير، فإن هذه الانتهازية تُطبع بمذاق أكثر مرارة من غيرها. رواية "عيّاش" والتى تدور أحداثها فى عالم الصحافة وكيف يدار هذا العالم ويتشكّل وكيف يسيطر عليه ويتحكم به رأس المال. يحكى لنا "عُمر عياش" كيف أن المعيار الوحيد، فى كثير من الأحيان، للصعود فى هذا العالم هو الانتهازية والصعود على حساب الغير والدليل على ذلك رئيس تحريد الجريدة التى يعمل بها والذى عاد رئيسا لتحرير الجريدة بعدما كان قد طرد منها.
تدور أحداث الرواية حول الصحفي "عمر عياش" الذي يعمل "ديسك" فى إحدى الصحف الخاصة التى لا تحيد سياستها التحريرية عن خط أى جريدة حكومية ربما أكثر (ملكية أكثر من الملك نفسه) فى جريدة "المواطن" حيث يعمل عياش الذى كان له أكبر النصيب من أسمه، حيث استطاع العيش والتحايل على الحياة لعيشها بكل الطرق وأغربها.
يعمل "عياش" فى صحيفة المواطن بعد أن ترك عمله السابق فى إحدى شركات استيراد المواد الكميائية، والذى رغم تقززه من ذلك العمل إلا أن عياش، يتحمل سوء عمله من أجل (لقمة العيش). ولم يختلف حاله كثيرا فى العمل الصحفي عن عمله السابق، فقط هو تغير المسمى الوظيفى.
بدأ العمل "ديسك" ولم يتخيل أبدا أنه سيترقى ليصير مدير لتحرير الجريدة فى أقصر فترة ممكنة. لكن لم يكن ذلك عن جدارة وكد فى العمل أو موهبة فذة، بل دفع ثمنا فادحا لتلك الترقية من إنسانيته، وأخلاقية. وذلك بعدما طلب منه اللواء مدير منظومة الأمن فى الجريدة، أن يرفع إليه تقارير (تجسس) على زملائه، أو يعمل لديه فى وظيفة "مخبر" أو عصفورة وعلى إثر هذه التقارير أقيل كثير من زملائه فى الجريدة. يستمر "عياش" فى الترقى كلما أظهر ولاء أكبر فى التجسس على الزملاء، لكن بما أنها كانت الطريقة الأقذر فى سبيل الترقى كان من الأسهل أن يأتى من يقوم بدوره بل وأفضل منه. انتهى دور عياش فى الجريدة بفضيحة مدوية، وذلك بعدما نُشرت التقارير التى كان يقدمها ويتجسس بها على زملائه لينال عنها الترقية، ورغم أن الرواية لم تذكر اسم من سرّب تلك التقارير ونشرها، إلا أن القارئ سيستنتج مَن الفاعل عندما يعرف اسم من تولت منصب عياش، وكانت "نورا" محبوبة عياش التى عملت للتو فى الجريدة وكانت قبلها شاعرة مغمورة، لم تنشر أي كتابات (إحدى كاتبات مقاهى وسط البلد) وبعدها بأيام، بعدما تسربت تقارير عياش عن زملائه وتولت هى منصب مدير التحرير. "نورا" الفتاة التى تعرّف عليها عياش فى إحدى مقاهى وسط المدينة، وفى بداية علاقتهما سرقته، سرقت منه كل ما يملك، بعدما لم تجد طريقة للحصول على أموال غير تلك لتسدد ديونها (عياشة هى أيضا)، وبعدها أرجعت إليه ما سرقت، وعاد أصدقاء ثم محبوبان اتفقا على الزواج قبل سقوط عياش الأخير.
ترتكز الفكرة الأساسية لرواية عياش، على التأكيد على أن صعود نجم شخص ما فى عالم الصحافة أو الكتابة لم يعد بالضرورة له علاقة بموهبة الشخص أو ذكائه أو قيمة ما يكتب، بل هى صفقة، بيع وشراء، فى سوق الشيطان لمن يدفع أكثر.
ف "عياش" أظهر كم أن الكثير من الوجوه والأسماء المشهورة لم يكن طريقهم إلى ما وصلوا إليه إلا بنفس الطريقة التى وصل هو بها. مجرد كتّاب مغمورين ارتضوا ببيع أخلاقهم وضمائرهم عن طريق التجسس، النفاق، وغيرها من السبل الشائنة فى سبيل للوصول إلى الشهرة أو الثراء او حتى لمجرد (أكل العيش).
فى رواية عياش، سيجد القارئ نفسه متحيرا، أيتعاطف مع عياش، أو يسخط عليه؟ فعياش ذلك الشاب، الكاتب المغمور، ربما حتى غير الموهوب، فقط هو يرتكن على مجد الجدود القديم، ورواية وحيدة منشورة، وبعدها يرى الناس دونه فى كل شيء، الأصل، الموهبة، والذكاء. فشخص بهذه المواصفات لا يجد طريقة للحصول على ما يستطيع العيش به (أن يكون كما يُقال له أن يكون) بغض النظر عن الوسيلة، فهل هذا سبب للسخط عليه أم الإشفاق، خاصة أن عيّاش يمثّل الكثيرين الذين يرتضون بأى عمل فى مقابل لقمة العيش.
لكن عندما يتقدم القارئ فى الرواية، الصغيرة نسبيا200 صفحة، فإن شفقته، لو أشفق على عيّاش، سوف تتحول بالتأكيد إلى اشمئزاز وقلة احترام، وذلك بالنظر ببساطة إلى حال عياش، أو من يرتضى بعمل أيا كان ليأكل، فلو فكرنا سنجد السؤال الأساسي، ماذا سيفعل إن لم يعمل أى عمل؟ أيمد يده ليتسول؟ لكن عندما يتحول أكل العيش إلى شهوة فى الترقى والصعود، والانتقام لإزاحة الغير ممن يرى أنهم أقل منه، سوف نتأكد أنه ليس أقل من هؤلاء فحسب، بل هو أسوأ وأقذر رغم أنه يتفلسف ظنا منه أنه أفضل من الجميع "مشروع أمير" كما كان يقول فى بداية الرواية، ولو أتيحت له الفرصة للطغيان أكثر لن يتوانى حتى عن الوشاية بأمه نفسها.
رغم اتخام الرواية بما يسير الاشمئزاز من عياش وعالمه، إلا أن جانب المأساة فى الحكاية حاضر وواضح، عندما نتعمق فى عالم الصحافة خاصة، والحياة الثقافية عامة، والمتمثلة فى مجتمع مقاهى وسط القاهرة، حيث يجتمع الكتّاب المغمورين، وربما أنصاف الموهبين، ممن لم تدر لهم حياة الثقافة والكتابة دخلا يؤمن لهم حياة مستقرة، فالكثيرين منهم كا "عياش" إن لم يعملوا أى شيء فإنهم يعتمدون على ذويهم وأصدقائهم، تماما كما عياش الذى كان مصدر دخله ربما الاساسي، أخته التى تعيش فى أمريكا والمتزوجة من رجل يعمل فى شركة "جوجل" وتغدق عليه بالدولارات عندما لا يجد جريدة أو موقعا ينشر له عملا مقابل مكافأة.
ربما كان عالم عياش، ومجتمع مقاهي وسط القاهرة لم يكن جديدا أو وليد أحداث سياسية أخيرة، لكن هذه المجتمع طرأت عليه التغيرات بل الانقلابات. فمنذ أن وجد وسط القاهرة ومقاهيها وجد الأدباء والمثقفون الذين صنعوا المكان، لكنهم كانوا يختلفون عن هؤلاء الموجودين الآن. فقديما كانت وسط القاهرة عبارة عن مسرح ثقافي مفتوح، تسمع هنا أمل دنقل يقرض شعرا، ترى هنا خيرى شلبي يحضّر ل "صالح هيصة" والأبنودى، وغيرهم كثيرين. أما الآن فقد تحول ذلك المسرح الثقافي المفتوح إلى ساحة صراعات، مليئة بالتشهير والتشويه والتخوين والوشاية. كرهت "عياش، وعالمه" بفضل براعة الكاتب فى سرد قصته.