القاهرة 13 اكتوبر 2020 الساعة 11:23 ص
عاش الذكريات: صلاح صيام
في حياة كل مبدع ذكريات جميلة أحيانا وحزينة غالبا، وهى ما تبقى عالقة فى الذاكرة لتذكرنا بكل ما هو مؤلم و جارح.. الشاعر الثائر بابلو نيرودا يقول عن المذكرات إنها تسجيل لصور فوتوغرافية؛ أما الذكريات فهي تسجيل لوحات تشكيلية من صنع فنان نحت الألم في قلبه الكثير. والاقتصادي الشهير السيد أبو النجا كتب سيرته الذاتية بعنوان "ذكريات عارية" وهو عنوان دال وموح. وفي مذكرات خالد محيي الدين أراد أن يطلق عليها اسم "ذكريات خالد محيي الدين" إلا أن الكاتب الكبير رفعت السعيد أقنعه بأن العنوان الأنسب هو "الآن أتكلم".
(فى هذه السلسلة نحاول الغوص فى أعماق المبدعين.. نستخرج ذكرياتهم المحفورة فى الذاكرة والتى لا تختفى بفعل بفعل الزمن أو أشياء أخرى.
واليوم موعدنا مع الحلقة الأخيرة للشاعر نادر ناشد، التى يتحدث فيها عن المبدع بليغ حمدى..
(لم تكن قضية بليغ حمدي تلحين أغانى لمجرد التلحين –كما يفعل أكثر الملحنين.. كان لديه مشروع كبير لم تعرفه مصر إلا عند سيد درويش ومحمد عبدالوهاب– أما مشروع بليغ فكان إنشاء مسرح غنائى يليق بمصر مثل مسارح أوروبا وأمريكا.. بل إن لبنان لديها مسرح استعراضى غنائى مبهر جداً وأشهر هذه المسارح فى لبنان عند الرحبانية، وقد شيده عاصى ومنصور الرحبانى منذ الخمسينيات من القرن الماضى ومسرح "كركلا" الذى أنشأه الفنان عبد الرحمن كركلا فى بداية الستينيات من القرن الماضى، وامتدت المسارح الاستعراضية حتى فى أكثر سنوات لبنان حزناً أو حرباً.. وفى عام 1982 كانت الحرب الأهلية فى لبنان تطحن القريب والبعيد وتحاول جاهدة محو تاريخ هذا البلد الفنان، إلا أن الفنانين هناك أسسوا مسارح جديدة تحت الأرض وأخرى متجولة وثالثة فى الشوارع –بل إن الفنانين الشاعرين جوزيف الخازن ومحمد نصار أسسا مسرحا غنائيا من نوعية مسرح الشارع وحققا نجاحات كبيرة من شمال لبنان إلى جنوبه.
أما فى مصر فلم يستطع سيد درويش –ولا أحد يعرف لماذا– أن ينشيء مسرحه الاستعراضى.. بل كان يرجيء هذا الأمل لكى يحققه فى إيطاليا.. ولكن القدر لم يمهله.
أيضاً لم يستطع محمد عبد الوهاب برغم إمكانياته الفنية الضخمة والمادية، فكان يمتلك شركة إنتاج فنى، ولكنه خصصها للسينما.. كان مشروع تجسيد مسرح أمير الشعراء أحمد شوقى يشكل أملا كبيراً يبدأ بمسرحية "مجنون ليلى".. ولم ينجح فى تحقيقه.
أما بليغ حمدى، فقد قاوم وحقق بالفعل نجاحاً ليس كما يأمل.. ولكن على الأقل خاض التجربة بكفاح وقدم مسرحيات "مهر العروسة" و "تمر حنه" و "ياسين ولدى".. وشاركت فى هذه المسرحيات وردة وعفاف راضى.
إلا أن الظروف المحيطة بالثقافة والفن المصرى لم تتح الفرصة لاستمرار مسرح بليغ –وأنا شخصياً كتبت فى مجلة الإذاعة والتليفزيون أن الجمهور المصرى يبدو أنه لا يعشق المسرح الغنائى أو الاستعراضى– وأعتقد أن هذا الاستنتاج خير ما يرد على عدم إقبال الناس على هذه النوعية، برغم أن كبار الفنانين كانوا أبطال هذه الأعمال. وإن كنت برغم ذلك ألح على أن تتدخل وزارة الثقافة وتواصل دعم هذه النوعية..
و أسعدني أن وزير الثقافة السابق الفنان فاروق حسنى رد على هذا الاقتراح بالترحيب والموافقة.. والحقيقة أنه كان وزيراً فعالا يتابع بإخلاص كل ما يكتب ويحاول الارتقاء بالفنون والثقافة بقدر الإمكان فى ظل ظروف صعبة قد تعرقله.
وبليغ حمدى عاد سريعاً إلى تألقه فى تلحين الأغانى الأكثر شعبية لدى الجمهور المصرى والعربى.
كان مهموماً بارتقاء وتطوير الأغنية المصرية.. ونجد هذا واضحاً فى تلحين الأغانى القصيرة لعبد الحليم حافظ ومحمد رشدى ووردة وشادية؛ أما عفاف راضى فقد اكتشف صوتها وقرر أن يتبناها فنياً، وفوجيء بالزعيم جمال عبد الناصر يطلب من الفنانين فنانا أو فنانة شابة ذات اتجاه حديث تكون مواكبة لفنانة لبنان الشهيرة فيروز وقدم الفنانون له صوت عفاف راضى فأعجبه.. وسريعاً أصبحت الفنانة المبتدئة نجمة ذات شخصية خاصة جداً.. أغانيها بصوتها الأوبرالى الذى لم يعتاده المصريون –فبدأ بليغ معها بأغنية شعبية تأليف الشاعر المبدع سيد مرسى هى "ردوا السلام" وعشقها الشباب ورددها ونجحت توصية الزعيم.. ولو طال العمر بجمال عبد الناصر لصارت عفاف راضى النجمة الأولى فى عالم الغناء إلا أن البعض بعد رحيل الزعيم حسبوها على النظام الناصرى ولم تتوهج مثلما كانت موهبتها توحى بذلك.
ظل بليغ حمدى حتى نهاية عمره يعترف بفضل الملحن والمطرب الإنسان محمد فوزى الذى كان فى استضافته، وبالمصادفة قدم له محمد فوزى كلمات أغنية "أنساك" التى كلفت أم كلثوم فوزى بتلحينها، وفوجيء فوزى بأن بليغ يندمج فى التلحين على آلة العود.. و كان فوزي قد بدأ في تلحين الأغنية وبعد نحو خمسين دقيقة انتهى بليغ من التلحين وسمعها محمد فوزى وانبهر بها واتصل بأم كلثوم وقال لها أغنية أنساك لحنها بامتياز بليغ حمدى.. وأعجبت أم كلثوم باللحن.. وتوالت ألحانه لها فغنت له "الحب كله" كلمات أحمد شفيق كامل و "سيرة الحب" و "فات الميعاد" و "ألف ليلة وليلة" لمرسى جميل عزيز.. والأغنية الوطنية "إنا فدائيون" أو "سقط القناع" كلمات الشاعر عبد الفتاح مصطفي، وغنتها أم كلثوم عام 1967 و أغنيات أخرى كثيرة؛ أما آخر أغنية مع بليغ كانت "حكم علينا الهوى" للشاعر عبد الوهاب محمد، وسجلت في الاستوديو فقط دون حفلة.
أما أغانى بليغ حمدى الوطنية، فقد اشتعلت فى أعقاب خبر عبور قناة السويس فى السادس من أكتوبر 1973 واقتحم مبنى الإذاعة والتليفزيون رغم اعتراضات الأمن هناك . ودخل الأستوديو ولحن أبرع الأغانى الوطنية التى تعايش معها الجمهور المصرى والعربى بحب عجيب وعشق وخاصة أغنية "على الربابة بغنى" لوردة كلمات الشاعر المبدع عبد الرحيم منصور، و "بسم الله الله أكبر" ولحنها بليغ وتأخر الكورس المكلف بالغناء عن الحضور، فطلب من السعاة والفراشين بالمبنى أن يغنوا هذه الأغنية، وخرجت فى منتهى الواقعية.. تشير إلى جنون هذا الفنان المتفرد المبدع الذى يصل به التحدى لأن يحقق ما يصبوا إليه بأبسط الأساليب.
أما فى عام 1967 –وبعد النكسة لحن أغان كثيرة مثل "فدائى" و "البندقية اتكلمت" و "عدي النهار" وغيرها، ولكن كانت لأغنية "المسيح" و كان الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى قد كتبها فى السابع من يونيه 1967–وبعد الهزيمة بيومين- ليعبر بها عن غضبه.. ووجد بليغ أن يغنيها عبد الحليم حافظ فى لندن، وفتحت له العاصمة البريطانية أبواب أشهر مسارحها هناك –وحققت الأغنية نجاحاً كبيراً وجدلا فكرياً.. كان يقصد بها الأبنودى الإشارة إلى بشاعة الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين وتشريد الشعب العربى.
رحل بليغ بعد نجاح كبير يوم 12 سبتمبر 1993 وأحس الوسط الفنى بهذه الخسارة بعد رحيله.. حيث حدث انكسار وهزيمة للأغنية المصرية لم يتمكن أحد من بعده من تصحيحها أو محوها.. رحم الله العبقرى النابغة.. ابن شبرا، وعوضنا عنه خيرا.