القاهرة 06 اكتوبر 2020 الساعة 09:16 ص
عاش الذكريات: صلاح صيام
في حياة كل مبدع ذكريات جميلة أحيانا وحزينة غالبا، وهى ما تبقى عالقة فى الذاكرة لتذكرنا بكل ما هو مؤلم و جارح.. الشاعر الثائر بابلو نيرودا يقول عن المذكرات إنها تسجيل لصور فوتوغرافية؛ أما الذكريات فهي تسجيل لوحات تشكيلية من صنع فنان نحت الألم في قلبه الكثير. والاقتصادي الشهير السيد أبو النجا كتب سيرته الذاتية بعنوان "ذكريات عارية" وهو عنوان دال وموح. وفي مذكرات خالد محيي الدين أراد أن يطلق عليها اسم "ذكريات خالد محيي الدين" إلا أن الكاتب الكبير رفعت السعيد أقنعه بأن العنوان الأنسب هو "الآن أتكلم".
(فى هذه السلسلة نحاول الغوص فى أعماق المبدعين.. نستخرج ذكرياتهم المحفورة فى الذاكرة والتى لا تختفى بفعل الزمن أو أشياء أخرى.
ونكمل الحلقة الثالثة مع الشاعر نادر ناشد، الذى يقول:
منذ عشر سنوات، فوجئت بأحد الزملاء يبلغني تلفونيا برحيل صديق عمري الشاعر الكبير أحمد زرزور.. الخبر كان صدمة بالنسبة لى؛ لأنى كنت قد قابلت الراحل قبل أسبوعين من وفاته، فقد جاءنى مبتسما كعادته فى مقهى بوسط القاهرة، وكنا فى شهر رمضان المبارك، وأبلغنى بمشروعه المسرحى الجديد، وقرأ علي أحدث قصائده. وأتذكر أنه قرأ ثلاثا منها، من بينها قصيدة فى ذكرى الزعيم جمال عبد الناصر، وكان متفائلا جدا كعادته، ولكن كان فى قلبه حزن دفين، نتيجة الظلم الكبير الذى وقع عليه بعد عزله من إدارة تحرير مجلة "قطر الندى" بعد ثلاثة عشر عاما من النجاح الكبير الذى حققه، وكنت أزوره فى موقعها بعمارة "ستراند" بباب اللوق. وقد حولها إلى "ورشة عمل أدبية ثقافية" .
كان عاشقا للعمل وكنت أندهش أنه يعمل حتى منتصف الليل.. يتابع إنتاج الأدباء الشبان، ويصحح كتاباتهم ويتبنى أعمالهم بصورة قد لا تحدث إلا نادرا وربما لم نرها من قبل.
كان "زرزور" يعتبر "قطر الندى" ابنته ويخلص فى تجويدها حتى صارت باعتراف الجميع أهم مجلة أطفال فى مصر والوطن العربى.. وكانت أكثر المجلات المتخصصة فى نشر القصائد والقصص، ورغم ذلك خرج زرزور من إدارة تحرير المجلة فى 14 ديسمبر 1998, بعد أن حقق نجاحات غير مسبوقة.
و "زرزور" هو أحد رواد قصيدة النثر فى جيل السبيعينيات.. كان من أكثر أبناء جيله تميزا للغته الخاصة ومفرداته المتفردة.. ومن أهم دواوينه الشعرية "هكذا ترمل الأمبروطوريات" و "حرير الوحشة" إلى جانب مجموعة شعرية كتبها للأطفال من أشهرها "أغنية الولد الفلسطينى" و "ورد القمر".
أحمد زرزور شاعر قومى ناصرى، مهموم بقضية فلسطين التى يعتبرها "حجر الزاوية" فى كل ما يكتب.. عانى أثناء فترة عمله كثيرا من المؤامرات والأحقاد، سواء من الوسط الأدبى أو فى عمله بالثقافة الجماهيرية , فمنذ بداية عمله واجه الكثير من المصاعب، فقد تم تعيينه مديرا للمكتبة الثقافية ببولاق الدكرور، وهى عبارة عن صالة تقع فى الدور الثانى بنادى بولاق الرياضى، وحوله "زرزور" إلى بؤرة نشاط أدبى وثقافى بمشاركة مبدعين حققوا أسماءهم فيما بعد مثل خيرى عبد الجواد وناصر الحلوانى وسمير عبد الفتاح وشوقى عبد الحميد وحازم شحاتة وكوثر مصطفى وربيع مفتاح وبدوى راضى ومجدى إبراهيم. وكنت أحضر أسبوعيا لمناقشة أعمالنا ومتابعة الجديد فى مجال الشعر والقصة والمسرح. واستطاع "زرزور" توسيع نشاطه الثقافى باستضافه كبار الأدباء، مثل إدوار الخراط ومحمد جبريل ويوسف القعيد وعبد المنعم عواد يوسف وخيرى شلبى.. وأنا شخصيا ناقشت ديوانى "فى مقام العشق" عام 1994 وكان قد صدر عام 1991.. ناقشه إلى جانب الشاعر الراحل أسامه عفيفى ومحمد مهران السيد.. وفى عام 1996 أقيمت ندوة لديوانى "هذه الروح لى" الذى صدر عام 1995 وناقشه الشاعر الراحل بدوى راضى والدكتور مدحت الجيار والشاعر محمد فريد أبو سعده.. وأقيمت ندوة لديوان "المرواغ" عام 2003 وكان لا يزال مخطوطا.. وتوقف الشاعر الكبير رفعت سلام فى الندوة عند قصيدة بعنوان "ذاكرة الكون" ووصفها بأنها قصيدة فريدة من نوعها حقا.. أضاءت لنا الكثير من خفايا الروح الإنسانية وذكرى التواصل مع الذات النورانية حين تتدثر بالخوف حينا وتتوارى خلف الاستفهام".
وفى غضون أربعة أعوام وبعد النجاح الكبير لندوات بولاق الدكرور طلب أحمد زرزور بشجاعة من الدكتور عبد الرحيم شحاتة محافظ الجيزة آنذاك بايجاد مكان مناسب يليق ببيت ثقافة بولاق الدكرور , كان ذلك بالتحديد فى يوم 10 سبتمبر 1995 , وبالفعل بعد أربعة شهور تم تشييد بيت الثقافة.
ومن خلال هذا البيت أصدر "زرزور" مجلة أدبية شهرية بعنوان "جسور" حققت نجاحا كبيرا نشرنا فيها جميعا قصائدنا وقصصنا ومقالاتنا، وكانت نافذة محترمة لإبداعنا.
وبرغم الظلم الكثير الذى تعرض له "زرزور" والذى تم فى عهد أنس القفى، حيث كانت هناك سلبيات عديدة لم يسكت عنها الشاعر الراحل، بل على العكس هاجم الوزير هجوما شرسا فى جريدة العربى الناصرى لدرجة أن "الفقى" استعان بأصدقائه الصحفيين للوساطة من أجل إنهاء الحملة ضده وكانت بالمستندات، إلا أن الوساطة قوبلت بالرفض.
أما الذى رد الاعتبار للراحل الكبير هو المثقف المستنير الفنان أحمد نوار، فقد أعاده مديرا لتحرير مجلة قطر الندى ومديرا عاما للنشر.. وبعد ذلك عينه الشاعر سعد عبد الرحمن مستشارا ثقافيا للهيئة.. وبعد رحيله أطلق اسمه على بيت ثقافة "زنين" اعترافا بفضله، كما قررت وزارة التربية والتعليم تدريس إحدى قصائده لطلاب المرحلة الابتدائية.