القاهرة 01 سبتمبر 2020 الساعة 09:32 ص
حوار: صلاح صيام
داخل كل مبدع رحلة قطعها –بحلوها ومرها- ليصل إلى المتلقي الذي غالبا لا يعرف عن هذا المبدع شيئا إلا ما يصل إليه من إنتاجه الإبداعي. وفى هذه السلسة نرصد حياة المبدعين، ونخوض فى أعماقهم علنا نقدم للأجيال الحالية، التى فقدت البوصلة, وأصابها شيء من الإحباط.. صور مشرقة تعينهم على تحمل متاعب الحياة، وتكون نبراسا لهم فى قادمهم..
واليوم نبدأ رحلتتنا مع المبدعة التونسية نورة عبيد من مواليد 1973 بحارة الشعراء بالوطن القبلي.. درست المرحلة الابتدائيّة بقريتي حارة الشعراء ودار علوش، والمرحلة الثانوية بمعهد عبد العزيز الخوجة بقليبية.
ودرست المرحلة الجامعيّة بكليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بالعاصمة (9افريل) اختصاص لغة عربيّة.
قالت عن نفسها: أنجزت أوّل بحث (بحث التخرج) عن رسائل غسان كنفاني لغادة السمان: صورة العاشق في رسائل غسان كنفاني لغادة السمان، ما تبقّى من عشب الأسطورة.
وأدرّس اللّغة و الآداب العربية في الإعداديات و المعاهد.
شاركت في عديد الملتقيات الأدبيّة والثقافية الوطنيّة والدوليّة.
كتبت في الصحف الوطنيّة والعربيّة الورقيّة والإلكترونيّة.
حصلت على جائزة الطاهر الحدّاد لأدب المرأة في دورتها الأولى 2018 عن المجموعة القصصيّة مرايا التّراب؛ قصص التّفاصيل المنسيّة.
من مؤلّفاتها؛ بوابات على ديدان النّسيان 1999(مجموعة شعريّة) نوبات 2019 (رواية تشاركيّة مع معاوية الفرجاني):
بدأت حكايتها بقولها: أنا لا أعتقد أنّني جئت إلى الكتابة. أعتقد أنّني عدت.. من أين عدت لا أعرف! متى كان ذاك.. ما أتذكّره جيّدا وأجتهد في أن يدرك زمني حساسيّتي وهشاشتي وإصراري على خوض تجربتي على "قلم وساق" فمنذ طفولتي المبكّرة مأخوذة بجنّتنا التي تأوينا، بحقلنا الكبير الذي يضمّ مسكننا، بتاريخ تلك الأرض التي ضمنت قوتنا وطفولتنا وسعادتنا.. ومنذ طفولتي المبكّرة مبهورة بجدّي "معاوية عبيد" كيف تجرّأ على الفقر وقتله قتلا، وكيف تحوّل من "خمّاس" -ذاك الذي ينال خمس ما ينتج بحقول المالكين إلى مالك لحقول نوّع فيها البذور، فتنوّعت الثمار.. وكنّا نحن أحفاده أقرب الثمار إلى لذّته الكبرى. كبرنا - وكنّا تسعة - على حبّ تلك الأرض، وحبّ أن تزهر تلك الأرض دائما.. ودرّبنا أن ندعو الله سرّا وجهرا على أن يبارك حركتنا وينفخ في صورة ما نزرع ونغرس ونسقي، ليكون حصادا وتكون حياة من هذا الدّرب المحفوظ بذاكرة طفلة، تشقّقت صفاتي وعرّشت بدهشة باتت ثقلا عليّ. نعم الدهشة التي أُخِذت بها مبكّرا، وجّهت صبواتي وشقائي!
الناس تمضي سالمة إلى قضاء شؤونها وأمضي مثقلة بما يعترضني من صور وما يطرق مسمعي من كلم، غثّه وثمينه، كأنّي أرصد حركات العالم كلّه كلّه،فيأخذ من حيرتي وشجني وتعاطفي وعطفي. أسير بقلبين ؛قلب يواصل مهامه، وقلب يختزن أوهامه، فأسمع أبي وجدّي يتندّران بصفاتي الغريبة وأسئلتي الكبيرة وعشقي للانزواء بدل اللعب وحبّ العمل بالحقل بدل القيام بالأعمال المنزليّة وطلب الكتاب بشتّى الطرق ،كم أرهقني طلب الكتاب!
لم يقترن الكتاب بالمدرسة، قترن بالحياة، حياة ملغّمة بالأسرار كحياة جدّي يهب الأسرار لمن علق بقلبه وعقله، وتدرّب على أن يدحرجه إلى عالم البوح؛عالم الرواية والحكاية. كنت مبهورة بقدرته على الحكي وقدرته على قطع الحكي أنّى شاء، فنعلق بمشيئته ويصرّفنا تصريفا لقضاء شؤون شتّى حتّى ينهي حكاية بدأها، فنبدي كلّ الطاعة ونلبّي كلّ ما يطلب منّا لنيل خاتمتها! كنّا نسكن بالرّيف.. وللرّيف أحكام.. محكومون بالليل لننام وبالنهار لنعمل ونتعب. محكومون بحبّ الطبيعة والتيه في ملكوتها.. محكومون باستقبال الشمس ومغالبة الغروب دائما.. وكنّا (أنا وإخوتي) محظوظين في أن نتنقّل بين الريف والمدينة، فأبي من الرّيف وأمّي من المدينة ووهبني ذلك سرعة الملاحظة والمقارنة بين نمطين من الحياة مختلفين. ولأنّنا صغار، كنّا نحبّ المدينة! في الرّيف يممت الطبيعة حضنا، وغالبت قلّة موارد ما يطلب الطفل والمراهق بحبّ المدرسة وعشقها. فالمدرسة همزة الوصل بيني وبين حياتي.. رقّقت خيالاتي ومنحتها أجنحة، ولفتت انتباه من علّمني إلى خاصيّة لازمتني منذ المرحلة الابتدائيّة؛ هي براعتي في الإنشاء، وسعيي إلى التفوّق في اللّغة العربيّة وكلّ ما ينطق بها ويكتب، فكأنّ المدرسة هي الترقّي في حذق هذه اللّغة التي عشقتها. ولم يكن ذلك متاحا دائما. ألتهم كتبي المدرسيّة التهاما، تجرّأت على كتب أبي وإخوتي والتهمتها. جعلت القراءة صديقا حميما يمنحني صحبة الكتب دون شروط. كنت أقرأ في كلّ الأوقات ، وكلّ الأوقات تبدأ بعد إنهاء الواجبات المدرسيّة وأعمال الحقل خاصّة. الرّحلة الحقّ بدأت مع الانتقال من المدرسة إلى المعهد، وهو انتقال من الريف إلى المدينة، وهو اجتثاث طفلة من بيت جدرانه الحبّ إلى مبيت تلمذيّ بارد صلد ،يسهر على تسييره مشرفون لا رحمة ولا شفقة في قلوبهم.خرجت من حياة الفراشة تزهو من زهرة إلى زهرة إلى حياة القطيع، يصرّف الوقت فيها بميقات يخالف حياة الأطفال والمراهقين. ننام باكرا كالدّجاج، نأكل في كره أكلا لا رائحة فيه، نراجع دروسنا بعد الأكل دون أن تكون لنا القدرة على التركيز والتفكير والتعاون. مشرفون جهلة يسوسون أطفالا وشبابا إلى القرف.. ذاك هو المبيت التلمذيّ بمدينة قليبيّة لا مكان فيه لمكتبة أو مذياع أو تلفاز! تخيّلوا حياة تحت المراقبة. وعلينا أن ننجح ونتميّز، ولولا الكتاب المنقذ من القرف لانتحرت من شدّة القرف. كنّا نعود إلى منازلنا نحن التلاميذ المقيمون بالمبيت في نهاية الأسبوع؛ يوم السبت لنعود يوم الأحد. كان السّبت عيدا والأحد مأتما. ويبدأ النّواح قبل ساعة من موعد قدوم الحافلة التي تقلّنا من الريف إلى المدينة إلى السجن التلمذيّ.
كان مشهد التلاميذ المقيمين جالبا للسخريّة.. يسخر منّا شبّان المدينة ولا أعرف لماذا يومها؟ لم يكن ذلك الإحساس إحساسا خاصّا بي، وإنّما كان يشاركني فيه تلاميذ آخرون. ولم يكن لنا من بديل غير الاجتهاد والتفوّق. عانيت كما عانى بعض أصدقائي من تمييز بعض أساتذة المعهد بين التلاميذ المقيمين (أبناء الريف) والتلاميذ غير المقيمين "أبناء المدينة" سامحهم الله..
ونكمل فى الحلقة التالية بإذن الله.