القاهرة 01 سبتمبر 2020 الساعة 09:31 ص
بقلم: حاتم عبد الهادى السيد
تعود الجزائر لتتصدر المشهد الروائى العربى بفوز الروائى عبد الوهاب عيساوى بجائزة البوكر 2020م وذلك عن روايته: "الديوان الإسبرطى" حيث يغوص بنا الكاتب في أعماق التاريخ، عبر أثينا وأسبرطة وما كان بينهما من حروب، وما نتج عنهما من حضارة عسكرية وثقافية وسياسية واجتماعية.. والرواية من أدب الرسائل، أو أدب السيرة الذاتية، حيث تدور أحداث الرواية في الجزائر العاصمة، وتحديداً في بلدة اسمها المحروسة هناك، وقد حدد الكاتب الفترة الزمنية لأحداث الرواية ما بين1815 م و 1833م. والرواية تركز الضوء على فترة الاحتلال العثمانى للجزائر، في ظل وجود الدولة العلّيّة التركية (العثمانية) حيث الاستعمار الفرنسى للجزائر، كما تنقل لنا عدة أحداث مرت بها الجزائر، ومعارك كان لها أثر في التاريخ الجزائرى مثل معركة واترلو، وحادثة المروحة، وهجمات القراصنة على الجزائر، كما تبرز مدينة طولون التاريخية كشاهد على عصر مضى –كما يقول المؤلف- : (تعود طولون إلى الذاكرة كمهرجان من الهُتاف، ووجوه مألوفة وأخرى غريبة تجوب الشوارع. جنودٌ في صفوف لا نهائية، خطواتها رتيبة تهدف إلى الميناء، الكل يود أن يكون جزءا من الحرب المقدسة، التي تبعث المجد لأمة خدش شرفها وأهين، الكل يريد القضاء على ربوة القراصنة التي تستعبد المسيحيين، الكل يحلم بالقضاء على أسطورة الأتراك المتوحشين في المتوسط، ولكن كيف هي طولون اليوم؟!).
إنها رواية الذاكرة الجزائرية، تعيد استلهام التاريخ، تستعيد الأمجاد الجزائرية، وتحكى ما خبأته كتب التاريخ وأدبياته عن الجزائر، كما تكشف الكثير من الحقائق التاريخية الممزوجة بالتخييل، عبر المخيال السردى الباذخ الذى يقدمه الكاتب.
ويحتل البحر مكاناً أثيراً لدى السارد/ الرواى/ المؤلف، فهو مرتبط بالغائيات الكبرى: اليقين، البحث عن الإله، الخالق، في ظل وجود معتقدات بالية عن الآلهة، حيث الشيطان يعتبر الإله الرامز للجهل، والغطرسة، والسلطوية كذلك؛ لكنه البحر بهديره يحيله الى الوعى، اليقظة التى تأخذه الى القيم الكبرى: الايمان بكل معانيه، وفى كل الديانات.. يقول عن البحر: (البحر يجعلك تؤمن أن هناك يقينا وإن كان غامضا لكنه ينتابك حين تشتاق إلى اليابسة، أما السياسة فهي شيء آخر حيث اللايقين هو اليقين الوحيد الذي عليك اعتناقه).
وما يميز الرواية هو تعددية الشخوص، والمواقف والأحداث، مما بين ديبون، كافيار، ابن ميار، حمّة السلاوى، دوج.. وهى شخصيات خمس، تستحوذ كل منها على فصل كامل، وتحكى وقائع طولون والمحروسة، وذكريات القراصنة الذين يغيرون عليهما، على الجزائر، والتى انتهت بإغارة الفرنسيين المحتلين عقب الحرب العالمية الثانية، كما يأتى السرد يحمل واقعاً سحرياً عبر معادلات موضوعية وفنية يصوغها بعبارات رشيقة، رامزة، مستخدماً تقنيات التناص الإحالى، ومستدعياً خلف ظاهر التخييل، والوقائع التاريخية، ليحيلنا إلى مشهدية الحدث، والمعارك الكثيرة، الحرب اللا إنسانية لمسيرة الغطرسة والظلم والاحتلال العثمانى، وما أعقبه من احتلال فرنسى، لبلد المليون شهيد. يقول في روايته: (ينحدر أمامي السهل، تملأه مقابر المحمديين، أراه من على صهوة الحصان، أضربه بكفي فينطلق مسرعا، لم أكن أدرك أن الخيول العربية بكل هذه الرشاقة. الآن أضحى على الفرنسيين أن يفكروا بجدية في هذا النوع من الخيول، إنها أفضل حتى من الخيول الأوروبية، رأسها صغير، وعيونها واسعة،وأجسامها منسجمة، ولا تتعب من المسافات الطويلة).
ويعتبرها بعض النقاد أول رواية تاريخية جزائرية بالمفهوم البنائي والتوثيقي والفكري معاً، وقد صدرت الرواية لأوّل مرة في العام 2019 عن دار ميم للنشر في الجزائر، وتتحدث الرواية عن خمس شخصيات تتشابك في فضاء زمني ما بين 1815 إلى 1833، في مدينة المحروسة، الجزائر. أولها الصحفي ديبون الذي جاء في ركاب الحملة على الجزائر كمراسل صحفي، وكافيار الذي كان جنديا في جيش نابليون ليجد نفسه أسيرا في الجزائر، ثم مخططا للحملة. ثلاث شخصيات جزائرية تتباين مواقفها من الوجود العثماني في الجزائر، وكما تختلف في طريقة التعامل مع الفرنسيين، يميل ابن ميار إلى السياسة كوسيلة لبناء العلاقات مع بني عثمان، وحتى الفرنسيين، بينما لحمّة السلّاوي وجهة نظر أخرى، الثورة هي الوسيلة الوحيدة للتغيير. أما الشخصية الخامسة فهي دوجة، المعلقة بين كل هؤلاء، تنظر إلى تحولات المحروسة ولكنها لا تستطيع إلا أن تكون جزءا منها، مرغمة لأنه من يعيش في المحروسة ليس عليه إلا أن يسير وفق شروطها أو عليه الرحيل. كما تحفل شخوص الرواية بزخم تاريخى وسيميولوجى من خلال السرد، الذى يعتمد الإزاحة والتراكم، والتماثل، والترميز أيضاً كموجه لمسيرة السرد المكتنز الدافق والمنساب بروعة مغايرة، تضفى مزيداً من البهاء على العمل الأدبى الذى استطاع أن يماهينا به "ما بين الشعرى والسردى": (الديوان الإسبرطى) وكأننا أمام سارد معاصر، يجمع بين الحسّ السردى الشاعرى، والسرد البديع الحقيق الناجز، التاريخى، والاجتماعى/ والذاتى أيضاً. إنها رسائل التاريخ، أوراق متناثرة من سيرة ذاتية، فضفضة، مسرودات يرويها لنا عبر سردية تاريخية واقعية وتخييلية واستشرافية للواقع المعيش كذلك، وإشارية إلى معاناة الشعب الجزائرى عبر عصوره التاريخية الممتدة.
تظل رواية "الديوان الإسبرطى" شاهدة على إبداع كتّاب الجزائر، وتفوقهم المستمر في الحفاظ على صدارة المشهد الروائى في مجال الجوائز، إلى جانب مصر، لتندغم الحداثة بالأصالة والمعاصرة ولنؤكد بأننا أمام كاتب متميز، جاد، سامق وباذخ، اسمه (عبد الوهاب عيساوى).