القاهرة 01 سبتمبر 2020 الساعة 09:27 ص
بقلم: طلعت رضوان
فى رواية (لهو الأبالسة) صاغت مبدعتها سهير المصادفة جدلا فنيًا بين الجمال والقبح. وفى روايتها الثانية (ميس إيجيبت) يتم اغتيال الفتاة (نفرت) الرمز ومعنى الجمال ومشتقاته فى اللغة المصرية القديمة. فى الرواية الأولى تختار المبدعة حيًا من الأحياء العشوائية (حوض الجاموس) فلا ماء ولادورات مياه. والعشش لا تسترها إلا خرق بالية فيسهل التلصص على المتزوجين. ومها تكتشف حكاية الست بطة التى ترفض الزواج لأن الرجال طماعون. أما الحمير فإنهم لا يطمعون ولا يرثون . وفى لحظة عبثية تموت بطة ويموت حمارها. ويُعقّب الشاب أحمد الذى انضم لحزب يسارى ثم استقال ((ناسنا فى حوض الجاموس قتلة أو مقتولون. سارقون أو مسروقون)) وإذا كان هذا الحى صورة مصغرة للقبح الاجتماعى، فإن اغتيال نفرت تجسيد لهذا القبح وشيوعه. وكانت المبدعة موفقة إذْ ربطت بين شيوع القبح وشيوع الاتهام. فإذا كان لكل جريمة فاعل محدد ، فإن قاتل نفرت أكثر من شخص. وفى تفسيره لاغتيالها قال د. عبدالرحمن أحد شخصيات الرواية ((قتلها هذا القبح. مستحيل أن يخرج من كل هذا رمز واحد للجمال)) .
وكما صاغت المبدعة الجدل الفنى بين الجمال والقبح، صاغت بالفن أشكالا متنوعة لمقاومة القبح. مقاومة تأخذ شكلا بسيطًا فى (لهو الأبالسة) ممثلا فى شخصية انشراح بنت البلد الساخرة البائسة التى حاولت تجميل هذا الواقع. وتتبدى مقاومة القبح فى (ميس إيجبت) فى شخصية د. عبدالرحمن وشخصية عارف. فكلاهما يعتقد أنه قاتل نفرت. يقول د. عبدالرحمن لعارف أنا لو لم أكن معك وقت ارتكاب الجريمة لظننتُ أننى قاتلها. أما عارف الذى لم ير نفرت أبدًا فإنها تلاحقه فى صحوه ومنامه. ورغم ذلك يعتقد أنه قاتلها . وتتبدى مقاومته فى فيلم سينمائى عن اغتيالها. ومقاومة د. سيد الجيزاوى فى كتابه (مصر الآن) الذى يُعلى فيه من شأن العقل ضد الغيبيات.
فى الروايتين يبرز محور الأصولية الإسلامية. ففى (لهو الأبالسة) فإن الشاب أحمد حكم على أمه انشراح (الوجه المضىء) بالموت رجمًا. بعد أن أقنع شباب الحى أنها كافرة. وحذر الأهالى من خروج بناتهن للعمل. حاولت مها أن تتقرب منه وحكت له عن السحب التى أزالوها عن سماء موسكو فردّ عليها كيف واتتهم الجرأة هؤلاء الكفرة أن يُغيروا مسار السحب؟ وبعد أن قتل أحمد أمه فإن أخاه الأصغر كفّره وسحله فى الشارع لأنه يعمل خادمًا عند (العاهرة) مها. فقال أحمد وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة وينظر إلى أخيه ويراه مسخًا أن هذا الغبى من صنعه هو. وفى (ميس إيجبت) نجد أحد الأصوليين المعادين للحداثة والذى قتل المفكر د. سيد والمتهم بقتل نفرت فيقول ((ولماذا أقتل نسوان ناقصات عقل ودين؟)) ويُدلى بتفاصيل ارتكابه ثلاث جرائم. مع تأكيده على عدم ندمه. ويحمد الله أنه استطاع تفجير الكفرة من القردة والخنازير. وكما أن الرواية بدأت ودارت حول اغتيال نفرت، فإن مبدعتها أنهتها (عن قصد فنى بالغ الدلالة) باغتيال د. سيد بسبب كتابه (مصر الآن) فقال له قاتله وهو يذبحه: لقد جئتُ أنفذ الفتوى الخاصة بك وأخرج سكينًا وذبحه مثل الخروف وهو يصيح ((الله أكبر)).
محور آخر يربط بين الروايتين هو موقف المبدعة من الثقافة العربية. فى (لهو الأبالسة) قالت مها لعاصم التاجى العرب سيموتون بإرثهم العقائدى. وكأن التاريخ لم يُسقط فعليًا أممًا بكاملها. هل تذكر ماذا اعتنقتْ وبماذا حلمتْ عشرات الدول أيام كان خوفو يُدشن حول تابوته أسرار البناء وأشعة الشمس ويُنظم دروب الروح؟ وفى (ميس إيجبت) يتذكر أحد الشخصيات الشاعر العربى الذى تغنى بلحم المرأة التى تدخل بصدرها فى يوم وفى اليوم التالى تدخل بأردافها. إنه مقياس الجمال عند العرب. وفى كتاب د. سيد (مصر الآن) الذى حرّمت الجماعات الإسلامية قراءته كتب ((إن العرب يقفون كالبلهاء على أرض مطار أقلعت منه بالفعل طائرة الحضارة)) كما أن د. عبدالرحمن يربط بين الثقافة العربية التى غزت مصر والأصولية الإسلامية وتساءل: ماذا تريد الجماعات الإسلامية من مصر الآن؟ لقد أخذت فرصتها كاملة ولقرون طويلة.
أيضًا محور الحضارة المصرية فى الروايتين. فيقول د. عبدالرحمن فى (ميس إيجبت) مصر كانت أم الحضارات وبداية البدايات. كثيرون أسهموا فى تخلفها. ابتداءً من الهكسوس وانتهاءً بتعلم العسكر قيادة البلاد. وفى (لهو الأبالسة) فإن الطبيب الروسى عندما عرف أن مها من مصر قال من بداية البدايات أنت. وتُشبهين نفرتيتى. فقالت مها لنفسها إن مصر أقدم الحضارات. وإذا كان ابن خلدون ذكر فى مقدمته أن ((مصر هى أم العالم)) (481) وذكر أن الخليفة المأمون حاول هدم أهرام مصر (291) لذلك كانت المبدعة موفقة عندما جعلت أحد الشخصيات يتساءل ((كيف ترك أبو الهول صلاح الدين الأيوبى يقتلع الأحجار من الأهرام ليشيد بها قلعته ؟)) .
فى (ميس إيجبت) محورجديد هو الموقف من انقلاب يوليو52. فنجد اللواء تاج يأمر ابنه بالقبض على د. عبدالرحمن لأنه قال إن باشوات العهد البائد كانوا يشيدون المدارس والملاجيء للأيتام ويبنون المبرات ويرعون الفنون الراقية ويتبرعون للمرضى ويفتحون الجامعات. ورغم ثراء اللواء تاج فإنه يحقد على زملائه الذين استفادوا من ضباط يوليو أكثر منه فأصبحوا محافظين وركبوا بعض الوزارات والرقابة على أقلام المبدعين. وطردوا الكتاب من صحفهم وأرسلوهم إلى باتا للأحذية. وقال د. عبدالرحمن: أنتم لصوص يا باشا. لقد صرنا أقل علمًا وفنًا وحضارة ونظافة. وما كنتم تودون القضاء عليه ها نحن نرزح تحته من جديد. لا تمت يا باشا قبل أن تخبرنا كيف يمكننا التخلص من عشرات الملوك لا من ملك واحد. وعندما يُذكره بالمعتقلات أيام عبدالناصر، يقول له إن يومىْ 9 ،10 يونيو قدّما لضباط يوليو شرعيتها الأبدية. لمجرد أن المصريين بلعوا سيناريو التنحى المكتوب بلغة علم (قهر الشعوب النفسى) وصدّقوا أكذوبة أن المتسبب فى هزيمة شعبه سيتنازل عن العرش. ويسمع صوتًا يقول ((يا أفندم أنا أفهم أن الاقطاعيين وخدمهم يتحسرون على أيام ما قبل الثورة. ولكنى لا أفهم لماذا يتحسر عليها الحفاة الجرابيع من جموع الشعب؟ فيردد نشيد الضباط الذى تغنت به الثقافة السائدة ((الحافى ابن الحافية لولا الثورة لا كان إتعلم ولا بقى دكتور أقبض عليه يا تاج. دا جاسوس لأمريكا وإسرائيل)).
توظيف لغة الشعر فى الرواية :
أحمد الدالى زوج مها فى (لهو الأبالسة) كان شيوعيًا وانتهى رأسماليًا ناجحًا. والعلاقة بينه وبينها شائكة. قال لها: فى هاتين العينين تتزوج الشمس بالقمر. لماذا ترفضين أن تكونى مرفئًا لى. لماذا لا تمسكين حذائى وتطيرين أينما حلقت؟ هنا نجد لغة فنية جمعت بين الصياغة الشاعرية وفضح شخصية المتكلم الذى ينشد عبودية مغلفة بالحب. ويقول لها من قال لك إن بياض اليوم أحلى من سواده؟ من قال لك إن تجربى الدخول فى طريق الغول؟ فترد عليه مستخدمة ألفاظه وتعبيراته ولكن بعد تحويرها ((من قال لك إن سواد الليل أحلى من بياضه. من قال لك أن تترك إصبعك فى فم أمنا الغولة حتى تأمن شرها)) واللغة الشاعرية نجدها فى (ميس إيجبت) خاصة فى مناجاة عارف لمعشوقته القتيلة نفرت والتى لم يرها أبدًا.
التوظيف الفنى للموروث الشعبى:
إذا كان سكان حوض الجاموس يُبدعون أشكال التحايل لشحن بطارية قوة الدفع الذاتى، فإنهم يحاكون ما سمعوه عن الشياطين فى موروثهم الشعبى والدينى. وكان عنوان الرواية دالا على ذلك (لهو الأبالسة) فنجد شخصية (أبو خطوة) الذى تزوج من مخلوقة ليست من البشر وأنجب منها ستة وعشرين طفلا. ويحج الى الكعبة كل عام رغم أنه لم يغادر مصر مطلقًا. وترفض الخالة (كفاية) تصديق أن ابنها غرق فى النيل. وعندما أحضروا جثته قالت: هذا ليس ابنى. ابنى لايقدر عليه الماء. وكان المقابل الفانتازى لحزنها هو تضاؤل جسدها حتى صارت فى حجم طفل صغير. وعدلات يسقط زوجها فى الأذان الذى توضع فيه عجينة الحلوى. وساح جلده مع عظامه. يرفض صاحب المصنع إبلاغ الشئون الاجتماعية ويعطيها مبلغًا وحلويات للأولاد. مع مرور الأيام انتهت الزوجة الى الجنون. مشت فى الشوارع تحكى قصة زوجها ومسحوق الفراولة الذى يشبه الدم وتقول ((هل أكل أولادى عظام أبيهم ؟)) نفس المستوى الذى جمع بين الأسطورة والواقع نجده فى (ميس إيجبت) وأعتقد أن الروايتين خالدتان فى الأدب المصرى والعالمى وأنهما بذور أولى لمشروع روائى ممتد. بذور مختلفة عن الإبداع السائد، حيث الموقف من الثقافة العربية وإعلاء شأن الحضارة المصرية. والحفر فى المحظور مثل المقارنة بين ما قبل وما بعد يوليو52 . والربط بين اغتيال نفرت (رمز الجمال) واغتيال د. سيد (رمز الفكر) وأنهما شكلان من أشكال القبح الذى عانى منهما البشر. وفى لهو الأبالسة تطرح رؤية فلسفية لخلاص البشر من هذا القبح، حيث كان حلم مها نوعا من توحد البشر رغم تعدد الجنسيات والثقافات. وهو ما رمزت إليه الكاتبة بامتزاج وجه دوستويفسكى والصوت المرتل لأبيات من كتاب جدودها المصريين القدماء (الخروج إلى النهار) الشهير بترجمته الخاطئة (كتاب الموتى).