القاهرة 11 اغسطس 2020 الساعة 09:38 ص
قراءة: سماح ممدوح حسن
منذ بضعة أيام صدرت أحدث روايات الكاتب أحمد مراد "لوكندة بير الوطاويط" الرواية السابعة. يمكننا تصنيف الرواية كأغلب روايات أحمد مراد على أنها تنتمى لأدب الرعب. وأضيف لهذه الرواية التاريخية بالكامل، بجانب كونها رعبا إلى كونها رواية جريمة والبطل فيها يُشبه "شيرلوك هولمز". تدور أحداث الرواية فى زمن الخديوى إسماعيل فى فترة الاحتلال العثماني لمصر، والأحداث ترجع فى بعض المواضع إلى زمن المماليك والحملة الفرنسية.
فى البداية يجب أن نعترف، أنه وعلى الرغم من عدم تقبل الكثيرين من القراء لهذه النوعية من الأدب "أدب الرعب" إلا أننا لا بد وأن نُقر أن الرواية كُتبت بتماسك وتفاصيل محكمة، وصياغة جيدة، ولو أن القارئ "غير المحب لهذا النوع من الأدب" تخيل أن قالب الرواية من طريقة سرد، وصياغة، ووصف وشخصيات، وتعشيق التاريخ المكتوب المعروف مثل الأوبة والأمراض المنتشرة فى تلك الفترة التاريخية بعض الشخصيات الحقيقية، وحفر قناة السويس، ومذبحة القلعة، ولاظوغلي باشا وهو الشخصية الحقيقية والذى كان بمثابة وزير داخلية محمد على باشا وأقرب المقربين منه وصديقه الوفي، وبين التاريخ المتخيّل، لأحب الرواية أكثر.
تحكي الرواية عن "سليمان السيوفي" المصور الفتوجرافي للموتى، وطبيب التشريح حتى ولو لم يتخرج فى كلية الطيب، بل هي مهنة ورثها عن أبيه الذى كان يعمل فى مشرحة المستشفى، ودائما ما اصطحب ابنه معه إلى العمل حتى احترف هو الآخر المهنة. شخصية البطل "سليمان السيوفي" غامضة معقدة، وهو بالأساس مريض عقلي مصاب بالهلاوس السمعية والبصرية، يتخيل أحداثا لم تقع وشخصيات أبدا لم يقابها، وكان المحرك الرئيس له، ووقود عقله، شخصية خيالية وهمية ابتكرها وألصق بها كل التهم التى جاءت بالرواية وكانت الشخصية الوهمية هى "هجين القمر" هذا الهجين الذى كان يسكن الكوكب بين المريخ والمشترى وبعد تحطم كوكبه استطاع الهجين الفرار والسكن على القمر، وبعدما انتهى بنو جنسه نزل إلى الأرض وبدأ يسكن أجساد الناس، ويأكل الذهب وينشر الأمراض الفتاكة والأوبئة مثل الطاعون والكوليرا. وجراء هذه الأوهام ارتكب سليمان السيوفي عددا من جرائم القتل، التى ستوهم القارئ فى البداية أنه هو من ارتكب كل الجرائم فى الرواية حتى يتضح العكس فى النهاية. ومن هذه الأوهام أيضا، كان البطل "سليمان" يرى نفسه صورة مغايرة تماما عما هو عليه حقا، حيث صورت له أوهامه وجنونه أنه نبي مرسل من عند الله، وكل ما يحدث له من عذاب فى الدينا هو اختبار وامتحان مثله مثل بقية الأنبياء الذى عانوا وتعذبوا. أيضا. ورغم عدم وصف الطبيب لحالة البطل بشكل مباشر، إلا أن القارئ من خلال السرد سيعرف مدى الهلوسات والوساوس التى يعانى منها البطل، حتى إنه تصور وجود ذبابة حكيمة، تكبر وتنمو حتى صارت وحشا عملاقا يتحدث إليها، تفيده كلما وقع فى مشكلة، والتى اختارت فى النهاية العيش فى تكية الدراويش المكفوفين. أيضا ذلك اللبلاب الذى عشِقه سليمان، وكان يظن أنه يوصل إليه الوحي من عند الله ويتصور أن سيقان اللبلاب تكتب له رسائل من الله على جدران الغرفة.
يعتمد السرد فى الرواية على طريقة ذكرها الكاتب على ظهر الرواية حين ذكر أنها يوميات وُجدت بين أنقاض "الوكاندة" أثناء الترميم فى التسعينيات. ومن هذه اليوميات التى تبدأ باليومية 34 حتى ال53، سنتعرف على الرحلة التى عاشها البطل والجرائم التى وقعت وحاول هو حل ألغازها عن طريق بعض الأدلة التى كان يتركها له القاتل، والذى كان يحسبه عدوه المتخيل "هجين القمر".
فى البداية كما هى الميزة التى تتسم بها روايات الكاتب، فرواية بير الوطاويط كُتبت بحيث تصلح للتحويل لعمل سنيمائي، فالكاتب كتب روايته وعينه على السينما. فاعتمد الكاتب الإثارة والغموض والسرد والقص البوليسي. رواية بير الوطاويط أيضا تحكي عن الظروف التى تقود البطل لاكتشاف قاتل متسلسل أو سفاح، لا يقتل إلا كبار القوم، لكن ليس بشكل عشوائي، بل إنه يختار ضحياه على أساس معين سيُكشف عنه فى آخر الرواية، وكان دافع القاتل فى هذه الجرائم هو الثأر لأمه. وذلك رجوعا إلى أيام مذبحة القعلة، حيث سيكشف القاتل "على" عن دوافعه لهذا الثأر بعد أن حكى أن أمه كانت سيدة مصرية زوجة لرجل ثري، لكن يأبى الانضمام أو حتى الخضوع إلى المحتلين العثمانيين ورجال البلاط؛ مما أوغر صدروهم عليه وانتهزوا فرصة القتل الجماعي للمماليك يوم مذبحة القلعة، وألصقو به تهمة إيواء الفارين منهم، أما أمه فقد آسرها "لاظوغلي باشا" حتى ماتت وكانت تحمل فى أحشاءها "على" الذى نوى قتله، لكن الأم استطاعت إنقاذه بعد أن هرّبته مع إحدى الخادمات المخلصات إلى الصعيد وكبر وتربى هناك وعرف قصة ما حدث لأمه وأبيه وأخته التى كانت تكبره بخمس سنوات والتى تزوجها "لاظوغلي" بعد موت الأم، وعندما التقى الأخوان فى الكبر بعد رحلة بحث طويلة، تحالفا سويا على الثأر حتى استطاعا قتل الخديوى إسماعيل نفسه.
رواية "لوكندة بير الوطاويط" كُتبت بالعربية الفصحى، أو على الأقل فى أغلب مواضعها، تماما كما أتخمت بالأمثال الشعبية والتى كُتبت بالتأكيد باللهجة العامية. فى هذه الرواية "الشارلوك هولميزية" سنتعرف على الكثير من الجوانب العلمية الحقيقية، ربما مضاف إليها بعض الخيال، فمثلا "عشبة يوحنا" التى كان الطبيب النفسي"الحكيمباشي ساسون" والذى كان البطل يوجه إليه يومياته، وهو أول من اكتشف جنون وهلاوس سليمان، وصف له عُشبة "يوحنا" أو كما عرّفتها الموسوعة "ويكيبديا" بأنها "عشبة العرن المثقوبة" أو عشبة القديس يوحنا، وهى نبتة تاريخية تعرف كأحد الأعشاب التى تصنع منها مضادات الاكتئاب ومضادات الالتهاب أيضا. أيضا عرّفتنا الرواية على طرق التصوير البدائية والكاميرات القديمة والألواح الزجاجية ومواد التحميض.
من أهم مميزات الرواية هى الحبكة، فبالرغم من تشعب الرواية وتفرع السرد فى الشخصيات والحوادث والأماكن إلا أن القارئ ببساطة لن يضيع فى هذه المتاهة. ف أحمد مراد، نجح فى مهمة، سرد الحاضر، حاضر القصة، ورجع بالتاريخ للوراء وربطه بالحالي دون أن نتوه فى الأحداث.
نهاية الرواية شبه مفتوحة، بمعنى أن القارئ ربما استطاع تخيل بقية جديدة للحكاية، وأيضا يصح أن يكتفى بهذا القدر من الحكي على أنه آخر ما حكى سليمان ثم مات بعدها مثلا.