القاهرة 04 اغسطس 2020 الساعة 11:36 ص
بقلم: حاتم عبد الهادى السيد
ربما لم تكن مفارقة أن يجىء موت شاعر العامية المصرى الكبير أحمد فؤاد نجم –شاعر الفقراء– قبل موت معلم الإنسانية العظيم الفيلسوف والمناضل ورئيس جنوب أفريقيا نيلسون مانديلا، وذلك لما بين الرجلين من سمات وصفات فى التوجّه، وإن اختلفا فى الأسلوب بالطبع.
لقد كان نجم شاعر الفقراء، بل إن ذاته قد جسّدت اليتم والبؤس والفقر، وهذا الثالوث قد أعطاه القوة ليشق طريقه نحو الحرية ورفض الظلم والطبقية والمناداة بحياة أفضل لطبقة العمال والمهمشين اجتماعياً، فكانت النظرة الاشتراكية هى النور الذى بدأ بصيصه يتفجر داخله منذ أن ألحق بملجأ للفقراء والبائسين ليقابل هناك عبد الحليم حافظ ، ثم خرج من الملجأ للحياة فعمل صبياً لمكوجى، ثم ترزياً فى الجيش البريطانى إلا أنه ترك العمل حين دعت القوى الثورية -آنذاك– العاملين بمعسكرات الإنجليز لترك العمل وتعويضهم بوظائف كانت أقل دخلاً إلا أن نجم انصاع للإرادة الوطنية وتحرر مثل غيره من ربقة الاستعمار من أجل الوطن العظيم، وكانت قريحته قد بدأت تلهج بالشعر وكتابة الأغنيات الوطنية، ثم تعرف على الشيخ إمام – وكان ملحنا مغموراً وبدأ الطريق فى عرض هذه الأغانى فى المقاهى والحارات الشعبية وفى الأفراح إلى أن تلقفته الإذاعة المصرية، وحين بدأ فى معارضة السلطة تم الزج به فى السجن لتبدأ مرحلة جديدة من النضال الوطنى.
وهناك قرأ عن مانديلا وجيفارا، فكتب قصيدته الرائعة عن موت جيفارا:
جيفارا مات
آخر خبر فِ الراديوهات
و فِ الكنايس
و الجوامع
و فِ الحواري
و الشوارع
و عَ القهاوي و َ البارات
جيفارا مات
جيفارا مات
و اتمد حبل الدردشة و التعليقات
مات المناضل المثال
يا ميت خسارة عَ الرجال
مات الجدع فوق مدفعه جوّه الغابات
جسّد نضاله بمصرعه
و من سُكات
لا طبالين يفرقعوا
و لا إعلانات.
كانت هذه مقدمة اقتضتها ظروف اللحظة الاجتماعية الراهنة التى تمر بها مصر/ الثورة، مصر الحضارة والنضال الوطنى. وقد شارك نجم الشعب المصرى ثورته باعتباره واحداً من البسطاء، هكذا كان، وهكذا مات، فكانت جنازته الشعبية تمر بأحياء القاهرة العتيقة ومشربياتها، وهناك فى حى الحسين وقف الفقراء وبعض المثقفين –من أصدقائه ومحبيه– يودعونه دون مراسم رسمية، أو أعلام وطنية مثل التى تقام للرؤساء وكبار الضباط والعسكريين والمشاهير .
2 -
مات عم أحمد، أبو النجوم، الفاجومى شاعر الفقراء والكادحين، مغنى الثورة، ذلك الذى تربينا على كلماته الثورية التى كان يلحنها ويغنيها الشيخ إمام عيسى، فتبعث فينا الثورية والوطنية الدافقة، وتصبّرنا على الظلم حتى انبلاج الفجر.. الفجر الجديد الذى طال.. فجر الحرية العظيم.
3 -
سمعت اسم الشاعر أحمد فؤاد نجم –لأول مرة– فى سيناء، وكنت وقتها عضواً بحزب التجمع بالعريش، وقد حضر الشيخ إمام عيسى ومعه الأستاذة أمينة شفيق و الأستاذة فريدة النقاش و الأستاذ أحمد بهاء الدين شعبان، وغنى الشيخ إمام عيسى قصيدته "مصر يا مه يا بهية":
مصر يا مّة يا بهية يام طرحة و جلابية
الزمن شاب و انتي شابة هو رايح و انتي جاية
جايه فوق الصعب ماشية فات عليكي ليل و مية
و احتمالك هو هو
و ابتسامتك هي هي
تضحكي للصبح يصبح
بعد ليلة و مغربية
تطلع الشمس تلاقيكي
معجبانية و صبية
يا بهية....
ولما سألت أحمد بهاء الدين شعبان عن مؤلف الأغنية همس بصوت خفيض – ربما لكى لا يحرجنى وقتها– قائلا: إنها للشاعر أحمد فؤاد نجم، فلذت بالصمت والخجل وأدركت وأنا الشاعر أن الأغنية الشعبية الثورية تلقى كل الترحاب لأنها تعبر عن ضمير الإرادة المصرية.
4 -
قابلت شاعرنا الكبير أحمد فؤاد نجم لأول مرة فى دار ميريت، وكان بصحبتى الروائى السيناوى مسعد أبو فجر، والقاص مصطفى آدم، وقابلنا الأستاذ محمد هاشم –صاحب الدار– بابتسامة شديدة وقدمنا له قائلا: هؤلاء هم أدباء سيناء، فقابلنا الرجل بالأحضان وأردف سيمفونية مدح فى أهالى سيناء وأيام حربى 1967 – 1973م ، كما سرد لنا بعض بطولات الجنود على الجبهة وتذكرت وقتها الكابتن غزالى –شاعر السويس– وهو يغنى على أنغام آلة السمسمية:
غنى يا سمسمية
غنى لسينا الغالية...... إلخ.
كما تعرفنا كذلك حينها على ابنة شاعرنا نوارة نجم وكان فى المجلس الروائى الكبير الأستاذ محمد البساطى والكاتب حمدى أبوجليل، وقد هالنى رؤية شاعرنا الكبير الذى يعد مدرسة ثورية فى الشعر العامى – وهو يلبس جلباباً متواضعاً، بل وبه رقاع كثيرة، ولما كنت شاعراً أدركت أن الشعراء لا يهتمون فى الغالب بالمظهر، بل هم يغوصون فى الجوهر متناسين حتى أنفسهم من أجل إعلاء الشأن الوطنى كما فى حالة شاعر مثل أحمد فؤاد نجم.
لقد كان نجم مدرسة للشعر البسيط العميق المؤثر فى الوجدان والمخاطب لكل الفئات الاجتماعية على اختلاف ثقافاتها وأنساقها الثقافية، لذا اخترق شعره الحوارى والأزقة ودخل بيوت الفلاحين والمزارعين والعمال، وعبر هو عن أحوال هؤلاء البسطاء، فخرج شعره من القلب ليصل إلى القلب من أقصر طريق دون تكلف او استخدام محسنات تجنيسية أو الغازيات تفك مغاليق الشعرية، بل كان على بساطته جذلا فى عباراته يختار الكلمات الموحية المعبرة ذات التكثيف اللغوى ويصوغها فى قالب شعبى يستهل به قصائده؛ لذا كانت طيعة للغناء وسهلة للسامعين ورفيعة فى الذوق الفنى، ثم أليس هو الفيلسوف الذى يتحدث عما نحن فيه من رهبوت الأمريكان وظلم الطليان؛ لذا فهو ينادينا بإعداد العدة لمجابهة المحتلين والغزاة، يقول:
مالكوش خلاص
غير البنادق و الرصاص
دا منطق العصر السعيد
عصر الزنوج و الأمريكان
الكلمة للنار والحديد
والعدل أخرس أو جبان
صرخة جيفارا يا عبيد
في أي موطن أو مكان
ما فيش بديل
ما فيش مناص
يا تجهّزوا جيش الخلاص
يا تقولوا عَ العالم
خلاص..
رحم الله شاعرنا الكبير وسيظل أحمد فؤاد نجم شاعراً ومدرسة يجد فيها البسطاء أحلامهم، ويجد فيها العمال أمانيهم كما يجد فيها كل إنسان ما يطلبه؛ لأنه آثر أن ينطلق من مساحة الفقر والجوع والمعاناة إلى دوحة الجمال والحرية فكانت أشعاره نوراً يغمر المصريين وإلهاماً للنموذج المصري لشاعر نادى بزوال الطبقية وطالب بعدم التمييز وبالوحدة الوطنية وبالعدالة الاجتماعية وبقيم الحق والعدل والخير والحرية؛ لذا لا غرو أن نطلق عليه مانديلا الشعراء الشعبيين فى مصر، وهذا أقل تكريم لفارس وهب حياته لقضايا الفقراء والمحرومين فإلى الغناء يا عم أحمد، وإلى الحلم الكبير بمستقبل أفضل لحياة أجيالنا القادمة: لو بطلنا نحلم نموت..
هكذا رحل دون ضجيج ونحن نودعه بالغناء والشعر ... لا بالدموع..
رحمك الله يا مانديلا الشعر المصرى الكبير.