القاهرة 30 يوليو 2020 الساعة 10:23 ص
كتب: علي سرحان
تعتبر حقوق الإنسان حجر الأساس في إقامة المجتمع المدني المتحضر، واحترام حقوق الإنسان ورعايتها هو عماد الحكم العادل في المجتمعات الحديثة، والسبيل الوحيد لخلق العالم الحر الآمن والمستقر . فلم يعد بالإمكان أن يتعامل الحكام في عالمنا المعاصر مع مواطنيهم بعيداً عن المعايير الدولية لحقوق الإنسان، التي أضحت التزاماً دولياً على عاتق الدولة أمام الأُسرة الدولية، ومقياساً لشرعية الحكم فيها.
وإذا كانت البحوث والدراسات تناولت بإسهاب الجانبين القانوني والسياسي لحقوق الإنسان، فإن الجانب التاريخي يبقى بحاجه إلى مزيد من البحث والدراسة لبيان الجذور التاريخية لحقوق الإنسان، وتطور مفاهيمها الذي ترافق مع التطور البشري، ونضال الشعوب الطويل من أجل الحرية والكرامة وصولاً إلى الوقت الحاضر الذي أصبحت فيه قيم حقوق الإنسان مقياساً لتقدم الشعوب، وتتباهى الدول العالم بتبنيها.
حقوق الإنسان في الحضارات القديمة :
لا يمكن القول بوجود لحظة محددة بدأت عندها الأصول الأولى لفكرة حقوق الإنسان، ولكن في أغلب الظن أن هذه الأصول قد بدأت مع بداية تكوين حياة مشتركة لمجموعات البشر، ومن ثم فإن هذه الفكرة ولو بصورتها البدائية هي فكرة قديمة قدم الحياة البشرية ذاتها. وتمثل المدينة بأوجه الحياة المختلفة فيها، والتي شكلت بدايات ظهور الدول في تاريخ العالم البدايات الأجدر بالبحث من خلالها عن تفاصيل محددة لفكرة حقوق الإنسان، فمدينة لا رأي فيها إلا لرجل واحد ليست مدينة كما أنه لا يكفي لكي نعيش حياتنا أن يتحول الصراع إلى مناقشات منطقية إلا حيث تقدر قيمة الاختلاف في الرأي وتتاح المعارضة. فالمدينة كمكان يعيش فيه البشر هي مستقر ومرتع تشجع فيه الحروب العقلية لا الحروب البدنية. وعليه فإن البدايات لفكرة حقوق الإنسان ضمن إطار الدولة تبدأ مع ظهور المدينة.
حقوق الإنسان في حضارة بلاد الرافدين (العراق القديمة)
يعتبر العراق مهد الحضارات البشرية وأبرزها اهتماماً بحقوق الإنسان، إذ يذكر المختصون بتاريخ العراق القديم بأن أُولى القوانين المكتوبة في تاريخ الإنسانية قد ظهرت هناك على أثر الأعراف والتقاليد التي من أبرزها وجود مجلس للشيوخ، من أبرز اختصاصاته هو القيام بتأليف القوانين بناءً على الموروث العرفي الذي درج عليه الناس في إدارة شؤونهم، ووصفت هذه القوانين بالتطور الذاتي على صعيد نظرية حقوق الإنسان، فيظهر مقدار الرقي الذي وصلت إليه هذه الحضارة، حيث أشارت النقوش الأثرية لألواح القوانين أن حقوق الإنسان لم تكن مجهولة في الفكر القانوني والعرفي، فالحرية والعدالة والمساواة ووضع التشريعات الكفيلة بحمايتها كانت من الأفكار الأساسية التي جسدتها القوانين المكتوبة ، ويذكر أنه أقدم وثيقة لحقوق الإنسان كانت سومرية، وأن القانون والعدالة والحرية من أساسيات الفكر العراقي القديم، وأن كلمة حرية (أماركي) قد وردت في نص سومري لأقدم وثيقة عرفها العالم القديم تشير صراحة إلى أهمية حقوق الإنسان، وتأكيدها على حريته وبرفضها كل ما يناقض ذلك، ويعتبر إنسان وادي الرافدين أقدم مشرّعي أحكام العدالة من الحضارات الأُخرى كالفرعونية والإغريقية والرومانية، فقد وضع تصوراته عن العدالة والظلم في صميم نظرية الآلهة والكون والإنسان، فالعراقيون القدامى يحتفلون في العشرين من كل شهر بعيد مكرّس لإله العدالة (شمس)، الذي أنجب في اعتقادهم ولدين هما (كيتو) و (ميتساو) أي العدالة والحق.
حقوق الإنسان في الحضارة الفرعونية (مصر القديمة)
ساد الاعتقاد لدى المصريين القدماء بأن الفرعون (أعلى هرم في الدولة) كان مفوضاً من قبل الآلهة ليعبر عن وجودها على وجه الأرض، مما منحه سلطة مطلقة، إذ اعتبر الفرعون إلهاً واعتبرت إرادته قانوناً، حيث كان يتصرف بالطريقة التي يريدها ويرغبها وما على الشعب إلا الخضوع. وبما أن الفرعون ممثل للآلهة التي تتصرف ضمن إطار الحق فكل ما يتفوه به صاحب الجلالة يجب أن يتم ويتحقق فوراً. وقد كانت للفرعون وظائف متعددة في مجالات مختلفة، فأما الوظيفة الدينية فتمثلت في تعيين مراتب ودرجات الكهنة الذين يقومون على خدمة الآلهة في المعابد، وأما وظيفته العسكرية فتلخصت في حماية شعبه وبلاده من الأخطار الخارجية فضلاً عن الوظيفة السياسية التي ارتكزت على نقطتين هامتين تمثلتا في نشر وتطبيق العدالة بشكل دقيق وصارم بين الرعية وثانيها توفير الأمن وصيانة النظام في البلاد. وبذلك سير الفرعون شؤون البلاد بصورة مباشرة وبمساعدة وزراء يعينهم ويقيلهم متى أراد وشاء.
إذن، فالمصريون القدامى ينظرون إلى ملوكهم نظرة تقديس بوصفهم آلهة، وهذه صفة أساسية من صفات الدولة المصرية القديمة على مر تاريخها عبر القرون، على خلاف ملوك العراق القديم اللذين اعتبروا أنفسهم مفوضين من الآلهة، وقد أيد ذلك قول لله تعالى: (وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري...) القصص 38. وكانت طاعة الملك واجبة لأن الفرعون هو مصدر السلطات، وسلطته مطلقة لطبيعته الإلهية، وعليه أن يكون عادلاً، ولذلك حُرِمَ المصريين القدامى من اعتناق أي عقيدة لا تتماثل مع إرادة الإله (الفرعون)، وعقوبة من يتخذ عقيدة أُخرى هي الموت أو الانحدار إلى مرتبة العبودية.
وقد ذكر القرآن الكريم في آياته الكريمة أن حكم الفراعنة كان يسوده الظلم والفساد وأنهم قوم فاسقين، بقوله تعالى: ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً ، يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، إنه كان من المفسدين ) القصص 4.
فلم يكن هناك مجال لممارسة الحرية الفردية الاجتماعية أو الاقتصادية أمام الفرعون فهو الذي يحدد دور الأفراد والفئات في المجتمع ويعين لكل عامل نوعية العمل الذي عليه القيام به والأجر الذي يجب أن يتقاضاه ويفرض القيام بأعمال السخرة في مراقبة أقنية الري وإنشاء السدود وغيرها. ولم يكن بوسع أحد القيام بمبادلات خارجية، إذ كان الملك صاحب الاحتكار في التصدير والاستيراد فهو وحده يملك وسائل ممارسة التجارة الخارجية من أساطيل بحرية أو قوات عسكرية.
أما الأسرة فحظيت بنصيب من التنظيم حيث ارتكزت آنذاك على أعراف وتقاليد أعطت للمرأة حقوقاً. فرغم تعدد الزوجات إلا أنها منحت حق الاحتفاظ بملكية ما تقدمه بموجب عقد الزواج وفي حال وفاة الزوج تنتقل السلطة العائلية مباشرة إلى الأم التي تدير شؤون الأسرة داخل وخارج البيت باستثناء وجود ابن بلغ سن الرشد والذي يقوم بدور رب الأسرة اتجاه أمه وأخواته وإخوته، كما وجد الأطفال نصيبهم من الاهتمام عن طريق إحاطتهم بعناية خاصة وعطف كبير.