القاهرة 28 يوليو 2020 الساعة 11:59 ص
حوار: صلاح صيام
داخل كل مبدع رحلة قطعها –بحلوها ومرها- ليصل إلى المتلقي الذي غالبا لا يعرف عن هذا المبدع شيئا إلا ما يصل إليه من إنتاجه الإبداعي. وفى هذه السلسة نرصد حياة المبدعين، ونخوض فى أعماقهم علنا نقدم للأجيال الحالية، التى فقدت البوصلة, وأصابها شيء من الإحباط صورا مشرقة تعينهم على تحمل متاعب الحياة، وتكون نبراسا لهم فى قادمهم..
واليوم موعدنا مع الكاتبة والمبدعة الجزائرية صورية حمدوش لنترك لها المساحة القادمة دون تدخل منا:
قالت فى البداية: كم هو جميل أن نعود إلى البدايات إن كانت كقصص الحب بداياتها جميلة. هكذا كان الجمال يكلل حياتي في عائلة تعاملني كملكة، خاصة أني آخر العنقود في العائلة الصغيرة، والأنثى الأولى التي تجاوزت البكالوريا.. فقد كان الإناث من عائلتي اللواتي ساعدهن الحظ في الدراسة إلى مستوى الشهادة الابتدائية وبحكم سكننا في مدينة صغيرة دون عائلتنا الكبرى في الأرياف، كنت أيضا المدللة عند قريباتي، حيث كنا نقضي عطلتنا الربيعية والصيفية في الأرياف في بيت العائلة الكبيرة، وكانت قريباتي يكللن رأسي بأزهار البابونج على شكل تاج.. كنت أعشق اللغة العربية ربما لأن بيتنا كان بعمارة طابقها الأرضي به مدرسة قرآنية، فتشرق صباحاتنا على الأصوات التي ترتله كالنحل وأيضا كانت شوارع الحي يوم الخميس كشارع المتنبي ببغداد يحج إليه باعة الكتب من كل حدب وصوب.. وربما هو هبة من الرب حباني بها.. اتضح هذا التفرد في حبي للغة العربية في مرحلة المتوسط بالسنة الثانية كانت مدرستنا نادية عبد الرحمن، كلما قرأت كتاباتي تنبهر.. إلى يوم عودتنا من العطلة الربيعية و تصحيحها لموضوع التعبير الحر نادت على الأسماء، لما سمعت اسمي ذهبت لجلب ورقتي فأردفت: صورية.. هل أنت من كتب الموضوع؟ وقبل أن أجيب تدخل أحد زملائي وكان جارنا بالسكن: هي تكتب لوحدها لأنها ببساطة لا تملك من يساعدها، نظرت إلي متعجبة فقلت إنها كتاباتي أستاذة.. أنا أجد متعة في القراءة والكتابة كأني أسافر عبر الزمن.. عبر شخصيات ما أقرأ، فزال عنها العُجب وبطُل لعلمها أن القراءة هي السبب، وأيضا لاحظ هذا أستاذ التاريخ والجعرافيا في السنة الثالثة متوسط الذي كان بالأصل أستاذ لغة عربية؛ لكن الظروف تحتم على البعض العمل في غير اختصاصاتهم. كان يعطي كل من يحفظ الدروس علامة10/20 مع ملاحظة بضاعتنا ردت إلينا ويغدق قليلا على من يستعمل أسلوبه الشخصي وكنت كذلك لا أتقن الحفظ وأعشق الأجوبة ببصمتي تجاوزت مرحلة المتوسط بامتياز وخاصة الرياضيات.. أخذت أعلى علامة على مستوى الأقسام الأربعة لروح المنافسة ولكنني قدمت اختياراتي.. علوم طبيعية، ثم آداب، ثم رياضيات لمرحلة الثانوية، فقد كنت أعشق اللغة العربية ومادة العلوم الطبيعية بنفس الدرجة ولو عاد الزمن لكان الآداب هو اختياري الأول.. وبسنة البكالوريا أصيبت أمي بالضغط وسقطت وانكسرت ذراعها وشلت نصفيا فكان تحضيري ليس جيدا لم أحصل على البكالوريا و السنة القادمة سجلت حرة وتأتي صديقة لبيتنا لنتبادل الأفكار ومناقشة بعض المواضيع ولكن بعد سداسي من الجد والجهد أصيبت أمي بجلطة وصارت تدخل في الغيبوبة بالساعتين على فترات متقاربة جدا فعدلت عن الدراسة، واستسلمت لواقع لم يكن بحسباني.. مجرد فتاة تقوم بأعمال المنزل.. وللتنفيس عن نفسي كنت ألجأ للكتابة لأكتشف شاعرة تداعبها الحروف في شكل خواطر أو قصائد عمودية أكتبها بأذن موسيقية، فلم أكن أفقه البحور الشعرية، وذات يوم وأنا خارج البيت عثرت أمي على كراس أوراقه صفراء من أيام الدراسة فظنته من مخلفات الدراسة فأتلفته، فما كان عليّ سوى الاستسلام لهذا القدر الذي يجتث كل يوم مني حلما، فقد اعتبرته رسالة ربانية خاصة وأني من مجتمع محافظ جدا.. الأعراف تحكمه ولن تسمح لي بمعاقرة الشعر، فنظرتهم إليه نظرة دونية. وبعد سنة جاءتني فرصة العمل بالثانوية التي كنت أدرس بها لدوام نصف يوم وفي سنوات التسعينيات، كانت الجزائر تمر بأسوء فتراتها ، حيث كانت هناك حرب داخلية بين جماعات الجبهة الإسلامية للإنقاذ والجيش الوطني وما سميت بعد ذلك بالعشرية السوداء، وقد طلب والدي التقاعد المسبق بسبب الظروف الأمنية السيئة، كان كل صباح يغادر بلديتنا إلى ولاية قسنطينة للعمل فيجد الطرقات مليئة بالأشلاء، كل يوم يخرج و لا يعرف هل سيعود سالما أم سوف يتعرضون له بالطريق في الأماكن غير الآهلة بالسكان؛ لأنه واحد من مجاهدي الثورة التحريرية ويساند النظام.. وبالتالي فهو في قائمة المعرضين للتصفية، فكان عملي يساعد بعض الشيء؛ لأن تقاعده لا يفي بالضروريات، ولأني هادئة محبة لعملي لاحظ المدير أن كل ما يوكل إليّ يكون في أكمل وجه، فرشحني وزميلة أخرى في مكان اثنتين قدمتا استقالاتهما اعتراضا على عدم العمل مع البنات المقيمات بالنظام الداخلي.. فرحت بالخبر لأني سأمارس دورا توعويا وسأنقل كل طاقتي الكامنة لهذه الفئة؛ لكن الفرحة كسرت قبل أن تكتمل، فقد عارضت أمي فكرة العمل الأسبوعي الليلي في الداخلية مع البنات، وهي مشروطة بالعقد وأسبوع بالإدارة.. وقتلت الحلم الذي بدأ يزهر بقلبي حبا وخوفا عليّ من الأقاويل، التي هي المرض الأكبر بمجتمعاتنا العربية ومناطق الأرياف خاصة، ومدينتي شبه ريفية. وبعد رعب عاشته الجزائر لعشر سنوات، حصد الكثير من رجالات العلم والنساء العاملات وخاصة ما لم تكن محجبة، اقترحت الوالدة على أبي أن يقدم رسالة للحصول على معاشه من وزارة المجاهدين.. فماذا حدث؟ هذا ما سنكمله فى الحلقة القادمة إن شاء الله