القاهرة 21 يوليو 2020 الساعة 11:27 ص
بقلم: د. حسين عبد البصير - مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية
لقد كانت مصر في موعد مع القدر حتى يمن عليها بواحد من أفضل الملوك المحاربين ودهاة الملوك السياسيين، وأعني الملك بسماتيك الأول الذي تولى حكم مصر في فترة عصيبة في عصرها المتأخر، وقاد مصر إلى المجد والقوة والنهضة ثانية، فكانت أشبه بابتسامة مبتسرة قبل أن يتم إسدال الستار على تاريخ وحضارة مصر الفرعونية، وقبل أن تتحول إلى مملكة يحكمها الغرباء، وأعني الإسكندر الأكبر وخلفاءه من الملوك البطالمة. وحقيقة، فمن رحم الموت، تولد الحياة، ومن هول وفجاعة الانهيار، تنبعث النهضة، ومن خضم المعاناة والفرقة والمأساة، تتحق الوحدة والأمجاد والانتصارات. وبفرض قبضة الآشوريين القوية على حكم مصر بعد هروب الكوشيين أو النوبيين إلى بلادهم الكوشية أو النوبية البعيدة، انتهت الأسرة الخامسة والعشرين الكوشية أو النوبية للأبد، وبدأت في التشكل والظهور الأسرة السادسة والعشرون الصاوية المصرية الوطنية تحت حكم الآشوريين حين قام الآشوريون بقيادة ملكهم الأشهر آشوربانيبال بتعيين نكاو أو نخاو، أو نكاو أو نخاو الأول كحاكم على مدينة سايس وابنه بسماتيك الأول كحاكم على مدينة أثريب أو أتريب بالقرب من بنها في القليوبية في الدلتا. وقام الملوك الصاويون بفرض سيطرتهم على الدلتا شيئًا فشيئًا كحكام تابعين للآشوريين. وفي عام 664 قبل الميلاد، مات نكاو أو نخاو الأول، فقام الآشوريون بتعيين ابنه بسماتيك الأول كملك على مصر ككل.
من الصعب على الملك العسكري والسياسي المحنك بسماتيك الأول أن يسيطر على الدلتا التي جاء منها، خصوصًا أن أمراء الدلتا كانوا ضعافًا وحكامها لم يكونوا يشكلون أية خطورة تُذكر عليه وتحديدًا بعد أن مهد له أبوه الحكم أثناء فترة تبعيته للحكم الآشوري، غير أن الصعوبة الحقيقية التي واجهها الملك بسماتيك الأول كانت هي كيفية سيطرته على الصعيد المصري البعيد عن الدلتا والعصي على السيطرة والاعتراف بحكمه، وتحديدًا مدينة طيبة العاصمة الدينية العريقة ومركز عبادة الرب الأكبر الإله آمون. غير أن الملك بسماتيك الأول أثبت أنه سياسي محنك ورجل دولة من طراز رفيع؛ ففي عام 656 قبل ميلاد السيد المسيح، قام بإرسال ابنته الأميرة نيوت إقرت أو نيوتكريس إلى الجنوب، إلى طيبة عاصمة مصر الدينية الكبرى، كي يتم تعيينها كزوجة مستقبلية للإله آمون رب طيبة الأعظم، في معبد الإله آمون بالمدينة، وكي يضمن السيطرة الدينية ومن ثم السياسية على طيبة وعلى الجنوب وعلى معبد الإله آمون وكهنته المسيطرين ودولته ذات الأوقاف والإقطاعيات والهبات والمؤسسات الاقتصادية القوية والمتحكمة في الجنوب وفي مصر ككل. وكذلك كان بسماتيك الأول من الذكاء بمكان حين استخدم نبلاء الجنوب، ولم يعادِ منهم أحدًا، وكان من بين أهمهم، والذي استخدمه كي يدعم حكمه وحكم ابنته في الجنوب بعد قيامه بخطوة تعيينها بمعبد الإله آمون، مونتو إم حات، عمدة طيبة القوي النبيل والكاهن الرابع للإله آمون. وكان بسماتيك رجل دولة مميزًا حين لم يخلع زوجتيّ الإله آمون الحاليتين من الأسرة السابقة، أي الأسرة الخامسة والعشرين الكوشية أو النوبية والتي هرب ملوكها إلى الجنوب، وهما شبن أوبت الثانية وآمون إرديس الثانية؛ وذلك حتى لا يدخل في محظور ديني يفقد به ما أراد تحقيقه من تعيين ابنته كزوجة مستقبلية للإله بعد موتهما. وهكذا سيطر بسماتيك الأول على الدلتا أولاً، ثم على الصعيد ثانيًا من خلال تعيين ابنته في طيبة في ذلك المنصب الديني والدنيوي المهم، وكذلك عدم معاداة البيت الكوشي الحاكم دينيًا في الجنوب أو معاداة نبلاء الجنوب الذين دعموا سيطرتهم وأيدوا سلطانه على الجنوب.
واتجه بسماتيك الأول ببصره إلى خارج الحدود بعد أن أمنّ دولته في الداخل. وحاول استعادة أمجاد ملوك مصر السابقين في الشرق الأدنى القديم، غير أنه وجد أن الأمر يحتاج إلى تكوين جيش قوي حتى يستطيع أن يحقق جولاته وصولاته وانتصاراته معيدًا مجد الإمبراطورية المصرية في الشرق الأدنى القديم والتي كانت في عصر الدولة الحديثة. فتوصل إلى فكرة بديعة وهي تكوين جيش من الجنود المرتزقة من بلاد البحر الأبيض المتوسط، فجمع عددًا كبيرًا منهم من الإغريق والكاريين وغيرهم.
وحكم بسماتيك الأول مصر لمدة تزيد على النصف قرن حوالي 54 عامًا، أعاد مصر فيها إلى عصر الاستقرار والقيم الدينية الراسخة في عقيدة المصريين القدماء. وعلى الرغم من التأثر الكبير بالتأثيرات الوافدة من الخارج في الفن والتجارة، والتي لم تحدث من قبل، قام ذلك الملك ورجال عهده ومن تلاهم بالنظر إلى آثار الماضي في عصور الدول القديمة خصوصًا عصري الدولتين القديمة والوسطى بعين الاعتبار والتقليد الحميد، والذي نعرفه بعصر الرينيسانس أو عصر النهضة الصاوية، حين قام ملوك الأسرة بتقليد فنون ونصوص الفترات السابقة ووضع لمستهم الفنية في محاولة منهم للالتصاق بمجد الماضي العظيم في مواجهة ضعف الحاضر الذي كانوا يعيشونه.
وفي عام 653 قبل الميلاد، استغل بسماتيك الأول انشغال ملوك آشور بأمورهم الداخلية، وانسلخ من سيطرتهم، وهم أيضًا لم يهتموا بانفصاله عنهم؛ نظرًا لشدة الصراع الداخلي على العرش لديهم، وتهديد قوة بابل الصاعدة من الجنوب لهم، فكان لبسماتيك الأول ما أراد. وكان سعيد الحظ. وأخذ لنفسه خطًا مغايرًا في السياسة الخارجية. وجعل من مصر قوة ضاربة ومهمة ومؤثرة في منطقة الشرق الأدنى القديم. غير أن غياب آشور عن المسرح السياسي للأحداث في الشرق الأدنى القديم، ترك فراغًا سياسيًا كبيرًا في المنطقة؛ فظهرت قوى أخرى مثل البابليين تحت قيادة ملكهم الشهير نابوبولاصر، وظهر كذلك الميديون، وظهر أيضًا الساسانيون. وفي الفترة من 629 إلى 627 قبل الميلاد، قام نابوبولاصر بالتحرك جنوبًا إلى جنوب فلسطين حتى دحره المصريون في أشدود على الساحل الفلسطيني. وتقين بسماتيك الأول من الخطر الحقيقي لمصر لانهيار الآشوريين؛ لذا ساعدهم ضد البابليين في عام 616 قبل الميلاد، غير أنه لم تكن لديه قوات كافية كي يقضي على البابليين نصرة ومساندة منه لحلفائه الآشوريين السابقين. غير أن قوى دولية أخرى مكونة من الفرس والساسانيين قامت بمهامجة آشور في عام 612 قبل الميلاد وقامت بالقضاء على الخط المالك في البيت الآشوري.
إن بسماتيك الأول ملك مصري محارب وسياسي ورجل دولة من طراز رفيع حقق لمصر مجدها وناطح القوى الإقليمية الكبرى وجعل لمصر مكانها في عالميّ الشرق الأدنى القديم والبحر المتوسط وحقق عصر النهضة الصاوية في فترة متقلبة من تاريخ مصر القديمة، فكان نعم الفرعون الموحد لمصر العظيمة والمجدد لثقافتها والمعيد لمجدها الخالد.