القاهرة 14 يوليو 2020 الساعة 10:13 ص
كتب: محمد محمد علي
بدايةً؛ تقول جوليا كاميرون: "الصورة الفريدة هي ما يلح علينا كي نقول بأن ذلك أصبح فنًا. فكر بذلك! أخيرا هناك "مكان" تضع فيه كل رؤاك ولحظات الصدق والفتنة والخبرة الفريدة التي كانت "ملفا" ناقصا. إذا فتحت هذا "الملف" وأنت تحضّر السيناريو مستعملًا هذه الطريقة كنقطة انطلاق للمشاهد، سينبض السيناريو الذي تكتبه بالصدق والحياة".
من المقتطف يتضح الدور المهم والفعال جدًا للكاتب السيناريست وما عليه القيام به لخلق أشخاص وأماكن بينهم حكايات تعبر عن مواقف وأحداث في أزمنة بعينها. لذا عدا من أهم آليات صناعة الفن المرئي مثال السينما والتلفزيون هو السيناريو الجيد والذي يُكتب بإتقان شديد يخلق فيه صاحبة شخصيات تكون حقًا من لحم ودم.
و لصعوبة تلك المهمة وبسبب اهتمام المنتجين في ذلك الوقت وفي أوقات سابقة بكل تأكيد على أن لا يكون هناك ما يجبرهم على دفع مبالغ طائلة بسبب وجود سيناريو يحتوي على مشاهد كتابية تكون صعبة التناول المرئي مما قد يدفعهم لضخ مبالغ لتسهيل مهمة المخرج يرون في الاكتفاء بحبكة قصصية وبعض الحوارات للشخصيات كفاية ضرورية لإخراج عمل فني (سينمائي أو تلفزيوني).
وفي السلسة الدرامية الأشهر للتلفزيون المصري التي امتدت من العام 1987 واستمرت حتى عام 1995، تعاون فيهما كل من الكاتب السيناريست الكبير أسامة أنور عكاشة مع المخرج إسماعيل عبد الحافظ في تقديم قرابة 155 حلقة هما الأجدر بالمشاهدة مرارًا وتكرارًا دون أي ملل.
إذن، السؤال الأهم هنا هو: ما الذي يميز هذا العمل الفني القديم بعض الشيء والذي لم يلحق بركاب التطور التكنولوجي في مجال صناعة الفن أن يحقق على مدار كل تلك السنين النجاح الباهر الذي يلاحقه في كل مرة يُعرض فيها على الشاشات؟ الإجابة عن هذا السؤال تكون بالطبع عن جودة الكتابة في السيناريو الذي برع عكاشة في صياغته وتقديمه للتلفزيون محتويًا على أحداث من أزمنة مختلفة وشخصيات يعبر فيها عن شكل المجتمع المصري في تلك الفترات الزمنية. بالطبع أيضًا التناول الإخراجي للمسلسل كان ممتازا إلى حد بعيد؛ لكن ذلك كان السبب فيه كما أشارنا لجودة السيناريو في الأصل.
وإذا كنا نحاول هنا أن نُبين ما الذي قد دفعنا لتناول هذه السردية الدرامية الأقوى في تاريخ التلفزيون المصري ليالي الحلمية، فسوف نقوم بتناولها على أنها دراسة أنثروبولوجية لحال المجتمع المصري بداية من الفترة الأخيرة للملكية مرورًا بثورة يوليو 52 حتى الانفتاح وحتي التسعينيات.
يُرى أنه من الصعب إيجاد تعريف جامع لمصطلح -مفهوم الأنثروبولوجيا، فلكونه علما يهتم بدراسة الإنسان بشكل مفصل وأكثر عمقا، يتداخل ويتشابك مع العديد من العلوم كالفلسفة، الأدب، التاريخ، اللغات، العلوم السياسة والمجتمعية، علم النفس، دراسة اللغة، وغيرها من العلوم التي تتخذ من الإنسان محورًا للدراسة. ويتشكل القوام الأساسي لدراسات الأنثروبولوجيا على البحوث الميدانية والتحاليل الاستقصائية فيما بين علاقة الإنسان بالموقع الجغرافي الذي يحيا فيه وما يؤثر ويتأثر به من العلوم الأخرى.
إذن، علينا بالسؤال عن أن ما يقدمه الفن قريب من أنه يصنف ضمن دراسات الأنثروبولوجيا؛ بصفته من ضمن جوانبها، وبكونه يعد إلى حد كبير من ضمن المواد التي تدرس الجانب الإنساني من ناحية، ومن أخري توثق بالصورة الأماكن وتدلل على الزمان.
فعلى طريقتهم قدم كل من الشاعر والمؤرخ (هوميروس وهيرودوت) في أعمالهما تمهيدا لهذا العلم، وذلك من خلال تقديم دراسات من خلال الأدب في تسجليهم لحياة الإنسان وتفاعله مع موقعة الجغرافي لتشكيل مجتمع له قواعده الخاصة في طرق العيش والحياة وإرساء حياة سياسية وعقائدية من خلالها ظهر التنوع الجذري فيما بين المجتمعات التي تربطها حتي وحدة اللغة، كما أن ما جعل من تلك الأعمال الأدبية أقرب أن تكون للدراسات الأنثروبولوجية هو أنها أكدت على أن الاختلاف فيما بين المجتمعات ليس بالضرورة تفضيل أحدها على الآخرين أو فساد مجتمع يعني إهمال دراسته، وإنما كان الهدف منها هو تقديم ذلك التفاعل الذي من خلاله يتم دراسة الإنسان داخل المجتمع حتى يتسنى للغير قراءة تاريخ الإنسان بشكل أكثر نفعًا.
ونحن هنا لسنا بصدد الحديث عن الأنثروبولوجيا بشكل مختص ولا عن هوميروس وهيرودوت، إنما عما قدمة الكاتب المصري الكبير أسامة أنور عكاشة وكيف له أن قدم في عمله الضخم ليالي الحلمية دراسة أنثروبولوجية قام فيها بتحليل المجتمع المصري في فترة زمنية امتدت من الأربعينيات حتى الأمتار الأخيرة من القرن العشرين.
قدم عكاشة العديد من الأعمال التلفزيونية التي شكلت الجزء الأهم من أرشيف الدراما التلفزيونية المصرية. تنوعت هذه الأعمال فيما بين المجتمعي الذي يحاول فيه تقديم ملاحظات تربوية تسهم في تصحيح مسار المجتمع بالاعتماد على الأسرة كما هو الحال في مسلسل "أبو العلا البشري". ومنها الذي قدم فيه رؤية مختلفة عن سرديات الطبقية في الحب والزواج في "الحب وأشياء أخرى". وتناول أيضًا إشكالية الهوية المصرية في "أرابيسك. يوميات حسن النعماني" وفيه تطرق لطرح العديد من الأسئلة حول التاريخ التطوري لكل من الإنسان والبيئة، وكيف تتشكل الهوية ويعاد تشكلها مرات ومرات. وعلى جزءين قدم جزءا كبيرا من تاريخ الإسكندرية أثناء الحرب العالمية الثانية، وهي كانت في هذا الوقت من المدن الكوزموبوليتانية والتي تضم العديد من الجنسيات المختلفة مقدمًا رؤية تحليله للمدينة في ذلك الوقت من خلال تفاعل الإنسان الذي جسدت انفعالاته، عقائده، أفكاره، شخصيات عديدة صاغهم عكاشة لتقديم ما يشبه ببحث ميداني كان قد تم في زمنه. وهنالك العديد من الأعمال التي لا تبتعد كثيرًا عن أخريات قد قدمت على أنها دراسة أنثروبولوجية للإنسان والمجتمع المصري.
ومن خلال تلك الرؤية، يتناول المقال واقعية الشخصيات داخل كل من الزمان والمكان والذي من خلال تلك الواقعية يهدف برصد حالة المجتمع السياسي والاقتصادي. بكون أن كل شخصية تمثل تيارا سياسيا/فكريا معينا، كما أن بعضًا منها يشارك الطبقة الواحدة، (تنوع الإيديولوجيات). وأيضًا العلاقة بين البروليتاريا و البورجوازية في العمل قيد البحث؛ عادل البدري وقمر السماحي نموذجًا. وهي عادة شكلت حيزا دائمًا من وعي عكاشة، حيث كان دائم التطرق إليها وإعادة طرحها بتأويلات مختلفة. كما هي عادته الأخرى في تقديمة للحب المكتوب له الفشل دائمًا الذي تواجد منه العديد بجميع السرديات التي قدمها، علي البدري وزهرة غانم نموذجًا. وكذلك فيما بين عبد الناصر والسادات، زينهم السماحي وصبية زعتر نموذجًا.
وسوف يتم تناول هذه النقاط بشكل متعمق أكثر في الجزء الثاني من المقال.