القاهرة 14 يوليو 2020 الساعة 10:12 ص
بقلم: طلعت رضوان
أثار الشاعر على عطا فى روايته (حافة الكوثر) الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية- عام2017، المشكلة (أو المعضلة) التى تعرّض لها البشر (فى كل المجتمعات الإنسانية، وفى كل الأزمنة) وهى (التوافق) بين طموحات الإنسان الشخصية، المُـستمـدّة من قدراته العقلية، ورغباته العاطفية، وبين الواقع الاجتماعى، الذى هو نقيض تطلعات وقدرات هذا الإنسان.
ولذلك، كان على عطا موفقا عندما استهلّ روايته بجملة ذات دلالة فى هذا السياق، كتبها الروائى اليونانى الكبير (نيكوس كازانتزاكيس) قال فيها (إنها لمعجزة- إذن- هذه الحياة: كيف تمتزج بها أرواحنا، عندما نغوص داخلنا ونعود إلى جذورنا ونصبح شيئا واحدًا) وتلك الجملة تكاد تــُـلخــّـص فلسفة كازانتزاكيس فى مجمل أعماله الإبداعية، حيث إنّ العودة للجذور لا تعنى التوقف عند الماضى وتقليده (كما يعتقد البعض) وإنما هدفها (تماسك الشخصية القومية) وإنّ هذا التماسك لن يتحقق إلا بمعرفة عيوب الماضى (لتجنبها) ومزاياه (للتمسك بها والدفاع عنها) وقد عبر على عطا عن هذا المعنى على لسان بطل الرواية عندما قال لصديقه طاهر (الخصوصية التى ضربتها فى مقتل. خصوصيتى التى انتهكتها عن عمد، فتحوّل ما كان بيننا إلى خراب) وفى نفس الرسالة ربط التفريط فى الخصوصية بالموقف من الانتماء الوطنى، حيث إنّ (التكيف مع الوطن البديل يظل هدفا بعيد المنال فى أحيان كثيرة، وفى أحوال كثيرة أيضًـا يتحوّل التكيف مع الوطن الأصلى إلى هدف بعيد المنال). (ص13، 14).
المقصود بالوطن البديل -فى مفارقة دالة- مصحة لعلاج الأمراض النفسية والعقلية، منحها المبدع اسما تراثيا يوحى بالنعيم (الكوثر) بينما التجربة على أرض الواقع أثبتتْ العكس، حيث إنّ العقاقير، وكل وسائل العلاج النفسى، لم تستطع القضاء على (مرض الاكتئاب) الذى هو أشبه بمرض الجدرى قبل اكتشاف الأمصال المضادة له. ولذلك كان سؤال البطل الدائم (هل يمكن يا الله أنْ يصبح الكوثر وطنا بديلا لناسه الوافدين إليه، رغمًـا عنهم؟)
كما أنّ المبدع ضفر هموم بطل روايته الشخصية، بأوجاعه واهتماماته بوطنه، فجعل من أحداث انتفاضة شعبنا فى يناير 2011 وما تلاها من أحداث، مجرد خلفية خاطفة، أشبه بتركيز الضوء (فوكس) بهدف تضفير الهم الشخصى بالعام، فكانت الذروة عند محطة حكم الإسلاميين، وندم البطل؛ لأنه أعطى صوته لمحمد مرسى، وهو الندم الذى عبر عنه قائلا (الآن أتمنى لو أنىى قاطعتُ الانتخابات، انتصارًا للثورة التى يبدو أنّ الجميع اتفقوا على وأدها) ولذلك تعمق إحساسه بالغربة والاغتراب، وبالتالى تضاعفتْ أعراض الاكتئاب، فقال (أنا غريب هنا، وأصبحتُ غريبا هناك. فقدتُ الوطن إلى الأبد). (ص105).
ونتيجة هذا الواقع المتعارض مع طموحات الراوى وقدراته العقلية ورغباته العاطفية، فإنّ عقله الباطن جعله يتشكك فى نسب ابنه إليه (أثناء النوم العميق) وهى حالة نادرة من حالات الأحلام التى هى أقرب للكوابيس، كما ذكر علماء علم النفس، فكيف تصل الحالة النفسية والعقلية بالإنسان لدرجة التشكيك فى نسب ابنه، إلاّ إذا كان قد وصل إلى درجة من الاضطراب النفسى (بل والعقلى) تجعله قريبا من (حافة الجنون) وهكذا كان العنوان الدال للرواية (حافة الكوثر) فكأنّ (الكوثر) هو (الجحيم) وليس النعيم. أى أنّ الواقع النقيض لطموحات الإنسان هو الجحيم، فى تناص مع تعبير الفيلسوف سارتر (الآخر هو الجحيم) فى كتابه الضخم (الوجود والعدم).
الراوى يعمل فى وكالة أنباء صحفية، وصاحب موهبة إبداعية، وبدأ بالفعل فى كتابة رواية، والأكثر أهمية أنّ وجدانه محمل بعواطف النبل الإنسانى، تجاه أمه وأبيه (الأمييْن) اللذيْن لا يعرفان القراءة والكتابة، ورغم وفاة الأب فإنّ الابن ظلّ وفيا لذكراه ولسيرته، ولم يخجل من عمله (بائع متجول) بل إنه يحن دائما لسماع صوت والده وهو يغنى، حيث كان (يهوى الغناء الشعبى) وقد ورث حلاوة الصوت عن أمه (ست الدار). (ص136).
وإذن، فإنّ القارئ أمام شخصية مرهفة الحس، ولديه حاسة استشعار تلتقط كل ما هو مُـتناقض مع مبادئه ورؤاه حول العالم والمجتمع، ولذلك يستريب من موقف المسئول عن إدارة وكالة الأنباء التى يعمل بها، حيث إنّ هذا المسئول هو الذى حوّله إلى مصحة الأمراض النفسية، كما أنّ حاسة الاستشعار جعلته يستريب من موقف مدير المصحة، الذى استدعاه لمكتبه وراح -بدون مناسبة- يتحدث (عن ثورة 30يونيو، وضرورة أنْ يدافع الإعلام عنها). (ص41).
وأعتقد أنّ هذا المشهد فى الرواية غاية فى الأهمية، حيث إنّ مغزاه يصب فى اتجاه تكثيف الضوء على (حالة الرعب) التى يشعر بها البعض (بما فيهم مدير المصحة) خشية من الراوى، الذى (قد) يكتب عنه شيئا (قد) يضر بمنصبه كمدير للمصحة، نظرًا لوعيه بحقيقة سيطرة جهاز الأمن على المصحات النفسية، لمعرفة التوجهات السياسية للنزلاء، وبخاصة أنّ بعض المُـفكرين دخلوا تلك المصحات بناءً على أوامر من القيادة السياسية، كما حدث مع المترجم والمفكر إسماعيل المهدوى (نموذجا) بأومر من عبد الناصر. وكما حدث (فى الرواية) مع شخص نسب نفسه لرسول الله وللصحابة وأنشأ (نقابة) أطلق عليها (نقابة الأشراف) ثم كانت قمة (هلوساته) عندما رشح نفسه لرئاسة الدولة المصرية، فكانت نهايته فى مصحة الأمراض النفسية، خاصة بعد أنْ أعلن رأيه فى نظرية النسبية، وقال إنّ أينشتاين أخطأ. وقال إنّ نظرية الانفجار العظيم الذى ترتبت عليه نشأة الكون، ليست أكثر من خرافة. وقال (معاى ما يثبت كلامى من القرآن والسنة. بس مش لاقى حد يصدقنى). (ص64).
وقد توازى مع هذا المحور فى الرواية، المحور الذى تناول كثيرين من نزلاء المصحة، ولدى البعض ترسبات دينية جعلته أقرب إلى من أطلقوا على أنفسهم (سلفيين) فكان وهو فى المصحة دائم السؤال: هل التدخين ينقض الوضوء؟ بل إنّ هذا الشخص وصل به تزمته لدرجة أنْ ينسحب من بين صفوف الصلاة، ويذهب للوضوء من جديد، وأحيانا يفعل ذلك ثلاث مرات فى الصلاة الواحدة، لمجرد تشككه فى (خروج الغازات من مؤخرته) فى مشهد ساخر مفعم بدلالات عميقة ويصلح للإبداع المرئى، حيث إنّ حركة الكاميرا فيها (بلاغة) أكثر من الكلمة.
وفى المصحة نتعرّف على شخصية (بيشوى) الذى يأتى والده -كل يوم- رغم أنه فى الستين من عمره، ليـُـطعمه بنفسه. وبيشوى فى العشرين وله وجه طفل. ولايطيق أى ملابس على جسده حتى الداخلية. وإذا انتابته حالة هياج عصبى يصيرشديد الخطورة. ولكنه فى الأحوال العادية لاخوف منه. وهومولع بشرب الشاى، فيطلب من النزلاء (ياى = شاى) و(أوكر= سكر) وهوشخصية تظل حية فى وجدان القارىء، نظرًا لقدرة المُـبدع على الغوص داخل عالمها الخاص. ومثل شخصية (عبده) الذى حارب فى أكتوبر1973، وأصيب بانهيارعصبى بعد أنْ وقع فى الأسرالإسرائيلى. وكان عبده تربطه علاقة صداقة مع (خال الرواى) ووصف حالته قبل حالة الهيجان العصبى بحالة هدوء مع علامات من الحزن البادية على وجهه. ولكن عندما تتملــّـكه حالة من حالات الانهيارالعصبى، فإنه يفعل أشياء (فى الشارع) لايمكن أنْ تخطرعلى ذهن المارة، من ذلك أنه اقتحم محل جزارة وخطف (الساطور) من يد الجزار، ويبدأ فى مطاردة من يجده أمامه، وعندما تقابل مع خال الراوى كانت المفاجأة أنْ عاد إليه وعيه فتجنــّـبه ولم يعترضه. ومن الشخصيات المثيرة (أحمد أبو المجد) الذى يردّد دائما أنه جمع بين أكثرمن مهنة، فمارس المحاماة والقضاء والطب.. إلخ. ويختتم كلامه قائلا (بس مش معاى غير الثانوية العامة) وفى المصحة شخصية الواثق بأنّ رئيس الدولة سيحمله (حقيبة وزارة الإعلام) ولكنه اشترط أنْ تفوق صلاحياته صلاحيات الرئيس.
ويبدو أنّ الراوى تأثر بالهلوسة السائدة (فى الكوثر) فيقول: رأيتنى (فهل كان فى الواقع أم فى الحلم)؟ مثل: رأيتنى أقابل ياسر عرفات، رئيس ما يسمى السلطة الفلسطينية. وقال لى إنه فخور بأنه كان فى شبابه ضابطــًـا فى الجيش المصرى. وبعد أنْ اجتازالخط الفاصل الوهمى بين القدس الشرقية والقدس الغربية، لمح النظرات العدائية على صفىْ شارع حيفا. مع ملاحظة أنّ المُـبدع لا يتدخل، لا بالشرح ولا بالتعليق عن فحوى هذا العداء، ويترك الاستنتاج للقارئ. وكانت ذروة الهلوسة عندما سمع شخصا يقول: إنّ أصل البشر امرأة. وبداية سكان كل قارة ترجع إلى آدم أمر مختلف عليه. وأنّ المرأة أسبق فى الوجود من الرجل. وأنّ التناسل سيكون بدون الرجل.
وإذا كان الراوى قد تأثر بهلوسات نزلاء الكوثر، فإنه حاول التماسك، وكان سلاحه هو الإبداع واستشهد بما كتبته الروائية المُـبدعة (إيزابيل الليندى) عن (خلاص الذات عبر الكتابة) ورغم أنّ الرواى ظلّ على قناعته تلك، فإنه فى آخر صفحات الرواية (وقد شعر أنه ينتقل من حافة الكوثر إلى حافة اليأس أوالجنون) أصبح لا يؤمن بأنّ خلاص الذات بالكتابة فقال: أنا مخطئ. من يظن أنّ فى الكتابة خلاصا؟ فالأمثلة كثيرة على مـَـنْ كتبوا ثم انتحروا، أو ماتوا منسيين فى مصحات أو حتى على أرصفة الشوارع (ص151). وأعتقد أنّ تلك النهاية فيها التأكيد على أثر الواقع الاجتماعى والسياسى على حياة الأفراد، حتى ولو كانوا من المبدعين، ومن هنا كانت العلاقة العضوية بين حافة الكوثر (المصحة) وحافة اليأس أو الجنون (الواقع).